عن الاتفاق الأمني الأمريكي الأردني و”الدرس الشاروني” الذي فوتناه / د. عبد الحكيم الحسبان

عن الاتفاق الأمني الأمريكي الأردني و”الدرس الشاروني” الذي فوتناه
د.عبدالحكيم الحسبان
ذات يوم من أيام صيف العام 1982 وفي ذروة النجاح الذي حققه الجيش الصهيوني، الذي اخترق وفي أيام معدودة الحدود اللبنانية ليصل إلى مشارف بيروت ويحاصرها، كان النقاش عاصفا داخل مقر رئاسة الحكومة الصهيونية بين وزير الحرب الصهيوني في تلك الحقبة أرييل شارون ورئيس الحكومة آنئذ مناحيم بيغين ومعه كثير من الوزراء. سبب الانقسام والخلاف هو تجاوز الجنرال شارون للتفاهمات الصريحة مع الولايات التي تسمح للإسرائيليين بالتوغل العسكري بما لا يتجاوز الأربعين كيلومترا داخل الأراضي اللبنانية للقضاء على الوجود الفلسطيني في هذا الحزام، ولكن الجنرال شارون تجاوز التفاهمات مع إدارة الرئيس ريغان لتصل القوات الصهيونية إلى مشارف بيروت وتبدأ حصارها.
في تلك الجلسة العاصفة كان هناك من يتهم الجنرال شارون بأنه يغامر بإغضاب الولايات المتحدة الحليف الرئيس للكيان، وبإغضاب إدارة الرئيس ريغان التي كانت تخشى الصدام مع الاتحاد السوفييتي الذي لطالما اعتبر سوريا واحدة من أهم مناطق نفوذه في العالم، وبأن لا قدرة لإسرائيل على تحمل تكلفة إغضاب الولايات المتحدة، فهي وبالإضافة إلى أنها الداعم العسكري الرئيس للكيان، فهي تقدم معونات مالية مباشرة كانت تصل حينها(ثمانينيات القرن الماضي) إلى حوالي الأربعة مليارات من الدولارات. في تلك الجلسة كان رد الجنرال شارون، الذي لطالما نظر إليه في الكيان على أنه يملك واحدة من أفضل العقول التكتيكية التي أنجبها هذا الكيان، إن لم يكن أفضلها على الإطلاق، بأن ليس لإسرائيل التي تقبض أربعة مليارات من الدولارات الأمريكية أن تكون مدينة للولايات للمتحدة، بل العكس هو الصحيح تماما، فوفق الجنرال شارون، فانه وفي مقابل أربعة مليارات تقبضها إسرائيل من الولايات المتحدة، فان إسرائيل تؤمن للولايات المتحدة في هذا المنطقة الغنية من  العالم ما يزيد عن الثمانين مليارا من المصالح الاقتصادية والمالية المباشرة في حينها.
في الحديث عن المعاهدة الأمنية الأمريكية الأردنية التي جرى نشرها في الجريدة الرسمية مؤخرا وأثارت الكثير من اللغط، وأثارت شكوك كثير من الأردنيين كما الجيران في الإقليم والمنطقة، والتي كان توقيتها يثير الكثير من الأسئلة بعد تزامنها مع قدوم إدارة جديدة لم يمض سوى أسابيع معدودة على توليها السلطة، ما يشي بأن الاتفاقية قد صيغت مع الإدارة الأمريكية السابقة التي مارست أقصى درجات العنف الاقتصادي والسياسي بل والإعلامي ضد الأردن وضد دولته.
 في الحديث عن الاتفاقية، لن أتطرق إلى مشروعية أو قانونية أو دستورية هذه الاتفاقية التي لم تخضع ورغم خطورتها وأهميتها لأي نقاش في المجال العام الأردني، بل ولم يجر أي نقاش عام قبل توقيعها في مجلس الأمة رغم الثقل الذي تملكه السلطة التنفيذية في هذا المجلس، ناهيك عن أن اتفاقية بهذه الخطورة لم يجر أي استفتاء عام للشعب حولها، بل كنت أتمنى لو أن استفتاءا يقوم به مركز الدراسات الإستراتيجية الشهير في الجامعة الأردنية قد تم انجازه لمعرفة نبض الشارع الأردني حيال الاتفاق قبل توقيعه، ليس من باب احترام إرادة الأردنيين، ولكن من باب تحسين الموقف التفاوضي “لشبابنا وكهولنا” الذين افترض أنهم خاضوا “معركة” المفاوضات مع الجانب الأمريكي حتى تتم صياغة بنود الاتفاق.
في تناولي لهذا الاتفاق وفي حديثي عنه، لن أقف على إي منصة أخلاقية أو وطنية لأتناول الاتفاق وأحاكمه من منظور وطني أو قيمي أو أخلاقي، بل سأحاكم الاتفاق من باب السياسة فقط، وحيث باتت السياسة تعني البراغماتية، والبراغماتية فقط. ولعل أبرز ما تقتضيه المحاكمة البراغماتية للاتفاق هو “الشطارة” في تشخيص حسابات الربح والخسارة التي يجنيها طرفا الاتفاق؛ أي الولايات المتحدة والمملكة الأردنية الهاشمية. والحال، فانه ومن أجل هذه المحاكمة البراغماتية لهذا الاتفاق قمت باستحضار الدرس الشاروني من ثمانينيات القرن الماضي لأبدأ به مقالتي عن حسابات الربح والخسارة في هذا الاتفاق التي يجنيها الطرفان الموقعان عليه.
في الاتفاق الأمني الموقع مع الأمريكيين جنى الطرف الأمريكي من الطرف الأردني جغرافيا سياسية أردنية تكتسب أهمية استراتيجية خاصة في هذه الحقبة من التحولات في خريطة توزع علاقات السلطة والقوة على الساحة العالمية. فالحضور العسكري الأمريكي العلني الذي يتيحه الاتفاق، مضافا اليه حضور عسكري بريطاني وفرنسي، إضافة لحضور عسكري الماني تمثل في سحب ألمانيا لعديد قواتها من قاعدة أنجيرليك التركية لتنتقل إلى الأردن، يؤمن للكتلة الغربية حضورا عسكريا في منطقة أجزم أنها صارت واحدة من أهم مفاتيح الإمساك بخريطة صناعة العالم الجديد.
وللتوضيح، فان الاتفاق الدفاعي الأمريكي الأردني يتيح للولايات المتحدة تعزيز حضورها في مثلث الحدود السورية الأردنية العراقية، وهو المثلث الذي لطالما كان في قلب السياسات الغربية والإسرائيلية تجاه المنطقة. ففي العقل الاستراتيجي الإسرائيلي والغربي يمثل خط الحدود العراقية السورية مفتاحا للهزيمة والانتصار للكيان وللكتلة الغربية عموما. ففي العقل الاستراتيجي الإسرائيلي لطالما اعتبر العراق على أنه دولة مواجهة خطيرة تهدد الكيان في مقتل، بالرغم من أن العراق في الجغرافيا هو ليس دولة مواجهة، وعليه فان خط الحدود السورية العراقية يجب أن يكون مقطوعا وبما لا يؤمن أي تواصل جغرافي وسياسي وعسكري بين سوريا وحلفائها في لبنان وبين العراق.
أما وأن خط الحدود العراقية السورية بات وفي ظل تشكل العالم الجديد وحيث الصين التي وقعت اتفاقا استراتيجيا بمئات المليارات مع الجمهورية الإسلامية في إيران هي في قلب المعركة الغربية الوجودية، فقد بات خط الحدود السورية العراقية هو في قلب المعركة الغربية ضد الصين وضد المحور الممتد من بكين إلى روسيا الى إيران فسوريا فلبنان.
في المناقشة البراغماتية للاتفاق الدفاعي الأمريكي الأردني كنت أتمنى لو أن المفاوض الأردني استحضر الدرس الشاروني حين كان يسن بنود الاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية وقبلها مع حلفائها الغربيين. فالاتفاق الذي يعطي الأمريكيين حضورا كثيفا ويحمي جنودهم من أي ملاحقة قانونية أمام القضاء الأردني في حال ارتكابهم أي جرائم على الارض الأردنية لم يعط الطرف الأردني من المكاسب ولو جزءا يسيرا في مقابل المكاسب التي يحققها للطرف الأمريكي والغربي عموما. فالاتفاق هو حتما جزء من الإستراتيجية الأمريكية والغربية ضد الصين وضد طريق الحرير الصيني التي ستمر في إيران لتصل سوريا والمتوسط.
بنى الأمريكيون قواعد عسكرية لهم في كوريا الجنوبية واليابان وألمانيا وبولندا وهنغاريا وايطاليا واسبانيا والكيان الصهيوني وغيرها، وفي مقابل هذا الوجود العسكري الأمريكي الذي ينتهك السيادة والكرامة، استفاد الألمان واليابانيون والكوريون اقتصاديا وحققوا ما يشبهوا المعجزات الاقتصادية نتيجة التحالف مع الولايات المتحدة. ففي مقابل الحضور العسكري الأمريكي حصلت هذه الدول على معونات أمريكية واستثمارات مباشرة وغير مباشرة وتسهيلات تجارية سمحت لهذه الدول أن تنتقل في فترة قياسية من اقتصاديات مدمرة وفقيرة إلى اقتصاديات مزدهرة.
 
ففي العلاقة مع الولايات المتحدة والغرب، بات الأردنيون يدفعون من الضرائب ما يفوق الخيال لينفقوا أكثر من أربعين بالمئة من موازنتهم العامة على ضبط منظومة أمنية إقليمية وعلى ضبط جغرافيا سياسية يستفيد منها الغرب وحليفهم بما يفوق التريليونات بأكثر ما يستفيد منها الأردنيون، ويستفيد منها الكيان المجاور بمئات المليارات في حين يعيش الأردنيون  أسوأ سنين حياتهم مع المرض والبرد والجوع والحرمان. ففي علاقة الأردنيين مع الولايات المتحدة ومساراتها الحزينة، يكفي النظر إلى نهر الأردن والطريقة التي يفصل بها هذا النهر الحزين بين عالمين وواقعين اقتصاديين. يثيران الإحساس بالمفارقة والسخرية. فالأردن كان وما زال ضمن المنظومة الأمريكية الغربية، كما دول الخليج كما الكيان الصهيوني، ولكن المثير للحزن والبكاء هو تلك الإرادة الغربية في تحويل الجار الإسرائيلي إلى معجزة اقتصادية وليعيش شعب الكيان بمتوسط دخل فردي يصل إلى أكثر من أربعين ألف دولار سنويا في حين تمت هندسة متوسط دخل فرد الحليف الأردني ليبقى دون الخمسة آلاف دولار سنويا، وليبقى الأردن في دائرة الإنهاك الاقتصادي الدائم ويما يسمح بابتلاعه ساعة يشاء التحالف الإسرائيلي الأمريكي ذلك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى