عمي

عمي

مصطفى وهبي التل

كان عمري ست سنوات عندما استشهد عمي #وصفي رحمه الله.

#خمسون_عاما أعود فيها في كل تشرين ثاني طفلا عمره ست سنوات.

خمسون عاما أعود في كل تشرين ثاني #الطفل الذي ادرك معنى #الموت ومعنى #الشهادة لأول مرة.

كيف تشرح لطفل في السادسة معنى الموت ومعنى الشهادة؟

يوم 28 تشرين ثاني عام الف وتسعمائة وواحد وسبعين انحفر في ذاكرتي كطفل ويعيدني كل عام ليوم حزين غريب في حياة طفل.

مديرة المدرسة التي اخرجتني من الصف والدمع في عينيها.

الرهبة التي شعرت بها عندما وجدت والدي ينتظرني في مكتب المديرة والحالة التي كان بها.

والدي كان ولا يزال الصخرة التي ألجأ اليها واحتمي بها لكن في تلك اللحظة, قبل خمسون عاما في ذلك اليوم المشؤوم وفي داخل مكتب المديرة لم اعرف والدي من الحالة التي كان بها.

قبل خمسون عاما تعلمت معنى الرهبة التي تمنع طفلا من الكلام دون ان يطلب منه عدم الكلام.

لم ينطق والدي بأي كلمة في تلك اللحظة. مد يده لي كمن يتمنى ان يجد بعض الاطمئنان من طفله الصغير.

لا أعرف من منا قاد الآخر إلى السيارة لكن المسافة من مكتب المديرة مرورا بساحة المدرسة إلى السيارة في الخارج كانت طويلة جدا. والدي لا يتكلم وانا خائف من النظر إليه.

الطريق من مدرستي إلى مدرسة اختي التي كنا نسلكها كل يوم أخافتني في ذلك اليوم.

الانتظار في السيارة بينما ذهب والدي لاحضار اختي من مدرستها أرعبني.

أخيرا وبعد ان جلست اختي بجانبي، التفت والدي إلينا وقال بصوت أقرب إلى الهمس لم أسمعه منه من قبل: عمكم وصفي مات.

عمكم وصفي مات.

ماذا يعني هذا لطفل في السادسة من عمره؟

لماذا هذه النظرة الغريبة على وجه اختي ولماذا بدأت بالبكاء؟

مالذي يحدث؟ لماذا يتصرف والدي هكذا ولماذا تبكي اختي؟

عمكم وصفي مات.

ماذا يعني هذا؟

سأنظر من نافذة السيارة واتخيل اننا نعود إلى المنزل بعد يوم عادي في المدرسة. ابي يسألنا عن المدرسة ونتنافس انا واختي في الاجابة.

لم نذهب إلى المنزل وانما ذهبنا إلى منزل عمة الوالد في جبل الحسين وهناك كانت صدمة اخرى جديدة لطفل في السادسة من عمره.

والدتي وقريباتي ونساء لا أعرفهم موشحات بالسواد.

صراخ وعويل وبكاء.

مالذي يحصل؟

عمك وصفي مات.

ما هو هذا الموت الذي يحطم والدي ويبكي اختى ويقود كل هذه النساء إلى الجنون؟

حاولت الالتجاء إلى والدتي لعلها تعيد الحياة إلى طبيعتها. أليست هذه وظيفة الامهات؟

لكن في تلك اللحظة لم تكن امي الملاذ الذي تعودت عليه حتى يومنا هذا. في تلك اللحظة كانت امي شخص آخر يبكي ويتفوه بكلمات لم اعرفها.

قتلوه ….

استشهد …

مات ….

عمك وصفي مات.

هربت واختبأت في زاوية بعيدة قدر الامكان من النساء الموشحات بالاسود ومن العويل والبكاء.

لكن مخبئي لم يحجب رنين البكاء والعويل في اذني.

هذا البكاء والعويل والصراخ الذي يعود ليصم سمعي كل يوم ثامن وعشرين من تشرين ثاني.

هذا البكاء والعويل والصراخ الذي يعيدني طفلا كل يوم ثامن وعشرين من تشرين ثاني.

نمت في مخبئي ولم يبحث احد عني.

كيف تركوني انام وحيدا؟

استيقظت كما نمت وحيدا في مخبئي في صباح اليوم التالي.

اين امي وابي ولماذا انا مختبئ؟

هل كنت احلم وما معرفة ابن السادسة بالاحلام؟

نظرة واحدة خارج مخبئي اعادت الخوف والرعب إلى قلبي الصغير.

لم يعد هناك صراخ وعويل لكن بكاء صامت ونظرات بعيدة من عيون خالية من اي دليل على الحياة.

اخافني منظر النساء وكم رغبت بأن اكون في المدرسة بين اصدقائي بدلا من التواجد بين كل هذه النساء.

اخافني اكثر اصرار معظمهم على ضمي والبكاء والتحدث بكلام لم يعني لي شيئا في ذلك الوقت.

بعضهم تحدث عن الانتقام. ماذا يعني الانتقام؟

بعضهم تحدث عن ضرورة حمل رسالة عمي. عن اي رسالة يتحدثون؟

مرة اخرى الكل تحدث عن الاستشهاد والموت والقتل.

الوقت والزمان اختفيان. لم يعد هناك وقت افطار او غذاء.

حتى الملاذ الاخير التلفزيون لم يعد كما كان. ايات من القرآن دون توقف.

اخيرا نادتني والدتي ولأول مرة شعرت منذ اصطحاب والدي لي من المدرسة بأن هناك امل بأن يعود كل شيء كما كان. فهذه والدتي تناديني. كم كنت واثقا انها ستعيد الامور كما كانت وسأعود للمدرسة وستعود افلام الكرتون على التلفزيون.

لكن والدتي لم تناديني لاعادة الامور كما كانت. طلبت مني التحلي بالشجاعة وطلبت مني الذهاب مع اختي وبنات عمة الوالد لالقاء نظرة اخيرة على عمي ولأكون الرجل بينهم. سررت لحصولي هكذا ودون اي جهد على لقب رجل لكن ما معنى القاء نظرة اخيرة؟

بين منزل عمة الوالد والشارع الرئيسي الذي اصبح اليوم جزءاً من دوار مدرسة سكينة خطوات قليلة. كم تفاجأت عند وصولنا للشارع الرئيسي بوجود اشخاص على مدى البصر وعلى جانبي الشارع. لماذا كل هذه الناس هنا. انهم هنا ليودعون عمنا وصفي كان جواب اختي.

اين سيذهب عمي وصفي؟

ماذا سيحل في العيد؟

من اعطى كل هذه الناس الحق في وداع عمي؟ انه عمي انا وليس عمهم. انه حبيبي وليس حبيبهم. اليس كذلك؟

الرجال كانت عيونهم حمراء والجهد الذين يبذلوه لتجنب البكاء واضح. اما النساء فأن بكاءهم لم يتوقف ولم ينقطع سماعي له منذ خروجي من منزل عمة الوالد حتى وصولي للشارع.

فجأة صمت رهيب وصوت عربات من بعيد وما ان اقترب ما سمته ابنة عمة الوالد بموكب الجنازة حتى عاد البكاء للجميع رجالا كانوا اونساءً.

الله اكبر …

الله اكبر …

وصفي … وصفي …

أبو مصطفى … أبو مصطفى …

من أمامنا مر النعش متوشحا بعلم الاردن. لم أعرف معنى النعش ولم أعرف لماذا ارتفع وتير البكاء والصراخ عندما مر من أمامنا.

احدى بنات عمة الوالد قالت لي ان عمي داخل هذا النعش الموشح بالعلم الاردني.

لم افهم لماذا عمي داخل النعش لكن في نفس الوقت لم أفهم كل ما جرى بالتالي لم اعد اسأل ولم اعد اطلب اجابات.

لم اسأل لماذا بقى الناس لوقت طويل في الشارع بالرغم من مرور الموكب.

لم اعرف انهم يواسون بعضهم البعض.

لم اعرف انهم لم يرغبون بالعودة إلى بيوتهم لأنه عند عودتهم عليهم سرد ما شاهدوه وهذا يعني الاقرار بأن وصفي قد استشهد. كيف يموت شخص مثل وصفي؟ ماذا سيحل بهم دون وصفي؟

عدنا إلى البكاء الصامت الرهيب والنساء واحاديثهم الغريبة وعدت إلى مخبئي إلى ان غلبني النعاس ونمت بعض الشيء.

استيقظت وتفاجئت بعدم سماعي للقرأن الكريم على التلفزيون. هرعت إلى الصالون لمعرفة سبب توقف القرأن الكريم.

توقف القرآن فقط لنشرة الاخبار.

اجتمع الكل حول الشاشة الصغيرة وطغى الصمت على الجميع وهم يستمعون للاخبار. كان المذيع يتحدث عن الجريمة وعن شهيد الوطن لقطات لنفس الموكب الذي شاهدته في عدة مناطق في عمان.

فجاءة احسست بالخوف من جديد واحسست بفقدان شيء عظيم.

امامي على الشاشة النعش من جديد لكن خلفه اعمامي ووالدي ورجال.

ماذا حدث للرجال؟

تسمرت عيني على اعمامي وعلى والدي. هل والدي يبكي؟ كيف يبكي والدي؟ من هو في السادسة من عمره يدرك ان الاباء لا يبكون. لماذا يبكي والدي؟

لأول مرة منذ اصطحبني والدي من المدرسة بكيت بحزن شديد.

من قبل كنت ابكي من الخوف ولرؤية الجميع من حولي يبكي.

لكن الآن ابكي لأني فجاءة ادركت معنى الموت.

لكن الآن ابكي لأني ادركت ان عمي لم يعد معنا.

ضاع الحلم

ضاع العيد

رحم الله عمي وحبيبي وصفي

خمسون عاما وانا افتقدك واحن اليك.

خمسون عاما وانا ابكيك يا عمي.

مصطفى وهبي التل

ملاحظة:
نشرت هذه المقالة أول مرة عام 2011. لا أجد افضل منها للتعبير عن ما يجول في نفسي في 28 تشرين ثاني.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى