عمران خان زَعيمُ باكِستان الجَديد يَتخلَّى عن القُصورِ وجَيشٍ مِن الخَدَمْ ويَنَتقِل إلى مَنزِل من ثَلاثِ غُرَفٍ.. ويبيع أُسطول السيّارات الرئاسيّة.. ويَنحازُ إلى الفُقَراء.. ويُقَرِّر عدم الالتزامِ بالحِصار على إيران.. وإنهاء التَّبعيَّة لأمريكا.. تمامًا مِثل زُعمائِنا العَرب!
تُتابِع الوِلايات المتحدة الأمريكيّة، والدُّوَل الغربيّة عُمومًا الوَضع في باكستان عن كَثبٍ، خاصَّةً بعد وُصولِ السيد عمران خان، لاعِب الكريكت السَّابِق إلى مَنصِب رِئاسَة الوزراء خَلفًا للفاسِد نوّاز الشريف الذي يَقبَع حاليًّا خَلف القُضبان، لأنّ هذا الرَّجُل، أي عمران خان، ينحاز إلى الفُقَراء وهم الأغلبيّة السَّاحِقَة في بِلادِه، ويضَع مُحارَبة الفَساد، وإعادَة تفعيل مُؤسَّسات الدَّولة، وتَحقيق الاكتفاء الذَّاتيّ، وإنهاءِ التَّبعيَّة لأمريكا على قِمَّة أولويّاته.
السيد خان بَدأ بنَفسِه، وأراد أن يُقَدِّم نَموذجًا مُختَلِفًا في السُّلوك السِّياسيّ والشَّخصيّ، عِندما أعلَن، وفَورَ أدائِه اليمين الدُّستوريّة كرَئيسٍ لوُزراءِ البِلاد، عن تَخلِّيه عن القَصر الفَخم المُخَصَّص له، وتحويله إلى متحف، والاحتفاظ بخادِمَتين من إجمالي جيش من الخَدَم، قوامُه 524 خادِمة، والعيش في مَنزِلٍ صَغيرٍ مُؤلَّفٍ مِن ثلاثِ غُرفِ نَومٍ، وبيع أُسطولٍ من السيّارات المُضادَّة للرَّصاص المُخصَّصةِ لَهُ.
رؤية الزَّعيم الباكستانيّ الجديد تُرَكِّز على الحِفاظ على المال العام، وانتهاج سياساتٍ تقشفيّة، وإعادَة تشكيل هُويّة باكستان من خِلال تَطبيقِ نِظامٍ إسلاميٍّ للرِّعايةِ الاجتماعيّة، يَحِد من الفَقر، ويُقَلِّص مُستَويات الدَّين العام المُرتَفِعة الذي وَرّثه إيّاه رؤوساء الوُزراء السَّابِقين الفاسِدين.
***
الاعتماد على الذَّات، وتَحفيزُ قِيَم العمل، والتَّحريض على الاستثمار الدَّاخليّ، وتَفعيل نِظام الضَّرائِب، ومُطارَدَة المُتَهرِّبين مِنه، والأغنياء مِنهم خاصَّةً، هي خُلاصَة الطُّموحات الأساسيّة لرئيس الوزراء الجَديد.
الأهَم مِن كُل ما تَقدَّم أنّه يَطمَح إلى وَضعِ حَدٍّ لتَبعيّة بِلادِه للولايات المتحدة، وهي السِّياسة التي حَوّلتها لأداةٍ، ورأس حِربَة في جميعِ الحُروب الأمريكيّة في المِنطَقة، وأفغانستان والعِراق والهِند على وَجهِ الخُصوص.
أعرِف السيد خان شَخصيًّا، عِندما كان يدرس الاقتصاد في جامعة أكسفورد، وانخراطه في الأنشطةِ السياسيّة، أعرفه داعِمًا صَلبًا للقَضايا الإسلاميّة، وقضيّة فِلسطين على وَجهِ الخُصوص، وشارَكته زوجته الأولى جميمية هذه الأنشِطَة، وكانت من أبرز المُعارضين للحَرب على العِراق، والرَّافِضين للحُروب الإسرائيليّة في قِطاع غزّة وجَنوب لبنان، وانتقلت، وهي ابنة مِليونير، لتُشاركه الحياة المُتواضِعة في باكستان حيث عادَ لخَوضِ مِضمار السِّياسة.
هذا الرَّجُل يُحاوِل أن يُعيد لباكِستان هَيبَتها، واستعادَة مكانتها، كقُوَّةٍ إقليميّةٍ إسلاميّة مُهابَة وذات شخصيّة سياديّة مُستقلِّة، وأوّل خُطوَة يتَّخِذها في هذا الصَّدد رفضه الالتزام بالعُقوبات الأمريكيّة على إيران، وجعل طِهران إلى جانِب الرِّياض العاصِمة الإسلاميّة الأُولى التي يُريد زِيارَتها بعد تَولِّيه السُّلطة، وكأنّه يُريد أن يُوَجِّه رِسالةً إلى البَلدين مفادها أنّه ليس طائِفيًّا، ومع الإسلام العابِر للطَّوائِف.
ليتَ زعماؤنا العَرب الذين يتنافسون، ليس في الحِفاظ على هَيبَةِ بِلادِهم وقرارها السِّيادي المُستَقِل، وإلغاء كُل أشكال التبعيّة لأمريكا، وإنّما في البَذَخ والقُصور واليُخوت وأساطيل الطائرات الفارِهة الخاصّة، يَتعَلَّمون من السيد خان وسَلوكَه وأجنداتِه للنُّهوضِ ببلادِه، ووَضع الفُقَراء المُعدَمين المَسحوقين على قِمَّة أولَويّاتِه.
***
في أوائِل التِّسعينات من القَرن الماضي، زُرت الهِند في مَعيّة الرئيس الفِلسطينيّ الراحل ياسر عرفات، وأثناء هذه الزيارة قرَّر الرئيس الراحل ومِن قَبيل العُرفان بالجَميل، زيارة السيد راجيف غاندي، رئيس الوزراء الأسبَق في منزله في ضَواحِي العاصِمة نيودلهي، وأذهَلني تَواضُع هذا المنزل وصاحِبِه، وأثاث غُرفَة جُلوسِه البسيط، وهو ابن الأكرمين، فلم يَكُن قَصرًا فارِهًا، ولم نَرَ رَهطًا من الحُرّاس يُحيط بِه، وجَيشًا من الخَدَم في أروِقَته، ولا لَوحاتٍ زَيتيّةٍ بمِئات المَلايين من الدُّولارات تُزيِّن جُدرانه.
عمران خان في باكستان، ومهاتير محمد في ماليزيا، وحليفا العَرب، عبد الرزاق وشريف، يَقبَعان خَلف القُضبان بِتُهَم الفساد وسَرِقَة المال العام، إنّها ليسَت صُدفَةً، وإنّما هي الحَقيقة، فنحن كعرب لم نَعُد رُموز الفساد، وإنّما البارِعون في إفسادِ الآخرين أيضًا، وإهدار ثَرَوات هَذهِ الأُمّة فيما يَضُرّها، ويُشَوِّه صُورَتها في العالَمِ بأسْرِه.
أرجوكُم تَوقَّفوا عن التَّعامُل مع الباكستانيين والهُنود وباقِي الجِنسيّات الآسيويّة بتعالٍ واحتقارٍ بَعدَ اليوم، فهؤلاء يُطَوِّرون هَويّاتٍ وطنيّةٍ قائِمةٍ على السِّيادة والاحترام، وامْتَلَكوا قُوَّة الرَّدع النَّوويّ، وأطاحوا بِرُموزِ الفَساد في بِلادِهم، واذا استمرّت حال التَّدهور العَربيّ الحاليّة، ولا يُوجِد مُؤشِّرات تُوحِي بِعَكس ذلك، سيكونون هُمُ السَّادة ونحن الخَدَم في المُستَقبل القَريب.. فهَل هُناك من يَسمَع ويَقرأ من الزُّعَماء العَرب؟.. والأيّام بَيْنَنَا.