عمان الجديدة … / جمال الدويري

عمان الجديدة …
ملهاة أم أكبر مشروع فسادٍ وطني بعد الخصخصة؟

ان كان للمدن عمرا افتراضيا, فإن “أمّنا عمان” قد انتهى عمرها الافتراضي والتشغيلي منذ عقود, وخاصة في رحلتي الشتاء والصيف, فما عادت تحتمل تدفق السياحة والزيارات الصيفية من الأردنيين والوافدين من خارج المملكة صيفا, ولا عادت بنيتها التحتية والفوقية, تستوعب حتى أمطار “بخبخة” صغيرة او حمولة عشرة قلابات من الثلج شتاء, حيث ان الجغرافيا الجبلية للعاصمة القديمة, ومحدودية استيعاب شبكتها للصرف الصحي او تصريف مياه الأمطار, وغير القابلة للتجديد والتوسعة الا بمقدار, وبكلف غير موضوعية, قد وضعت معالم مشكلٍ عويص, نعاني منها كل صيف وشتاء, رغم الإدعاءات الاستباقية للجهوزية وأهبة الاستعداد, تصل الى درجات كارثية غير محتملة, تتراوح بين ازهاق الحياة والخسائر المادية البالغة, وتعطل وتعطيل للمصالح العامة والحياة.
كما ويضيف التوزيع غير العادل للموارد والفرص, بين العاصمة والمحافظات, ومثله التركيز العالي للديموغرافيا المسببة بذلك, اسبابا اخرى للاكتظاظ والأزمات الخانقة في كل شئ, وعلى رأسها سوء الخدمات, وندرة مواقف السيارات, مما يجر معه هدرا مكلفا للوقت والمال, لم يعد مبررا ولا اقتصاديا او حتى حضاريا متماشيا مع عصر السرعة والانجاز.
وان تمدد العاصمة العمراني والسكاني في جهاتها الاربع, لم يحل هذا الإشكال, ان لم يزده تعقيدا وكلفة, حيث ان الديموغرافيا الأفقية هناك, لا تستوعب الا ارقاما متواضعة من سكان العاصمة, في حين تحمل عداد الخدمات وشبكات البنية التحتية, من ماء وكهرباء وشوارع وصرف صحي وصحة وتعليم وخلافه, بوابل من مخرجات المعادلة البشرية والاجتماعية, ترهق المتاح من امكانيات الاستيعاب العام.
ولهذا, ولغيره كثير, ليس اخره أن العاصمة والاردن, لا تتضخم بمتوالية عادية مستنبطة من توالد طبيعي للسكان, يمكن حسابه وتوقعه, بل بطفرات غير متوقعة وغير طبيعية, تفرضها أزمات الاقليم التي رافقتها هجرات بشرية فاقت حدود السيطرة والحساب, وقد استنفذت بالتالي بنية العاصمة العامة التي لم تبنَ بالتأكيد لهذه الارقام الفلكية من التعداد والمساحة, اقصى مقدورها وامكانياتها, وهذا منذ وقت طويل مضى.
والحديث اليوم, وعلى لسان (أصحاب الولاية), عن وجود النية لحلول جذرية لمشاكل العاصمة, ببناء موازٍ, ربما لعاصمة ادارية حديثة تخفف من مظاهر الاختناق بين الجبال السبعة وضواحيها, لا تتصل جغرافيا بالقديمة, قد أغفله المخططون ومهندسوا المدن, عندما فكروا بتوسعة وتجديد شبكات المدينة الحالية, بكلف مليارية, ربما ستكون تخديرا, وليس علاجا شافيا.
وفي حين يجري الحديث في أجواء الحدس والتوقعات, عن مشروع اقتصادي ضخم, لبناء العاصمة الجديدة, او عمان الجديدة, وربما على طريقة التأجير المفضي للتملك (الليزنغ), بين القطاعين الخاص والعام, وباستثمارات خاصة كبيرة تكاد, ان صدق تنفيذها وسلم من الغث, ان لا تحمّل خزينة الدولة وكاهل القطاع العام الا القليل الممكن, في ظل المديونية العامة الفلكية الأرقام.
وربما يكون بالعاصمة الألمانية بون, قبل إعادة توحيد الدولة, وهي القرية الكبيرة بحسابات المدن الالمانية, والعاصمة الحالية برلين, مثلا وقدوة, بأنه ليس بالضرورة ان تكون العاصمة هي المدينة الأكبر في الدولة, ففي حين كانت بون العاصمة السياسية للدولة الألمانية, فقد كانت فرانكفورت مثلا, عاصمة التجارة والاقتصاد, دونما تضارب او منافسة الواحدة للأخرى.
اما أكثر ما يخشاه المواطن الاردني, بين طيات النظرية والتنفيذ, لهذا المشروع الكبير, وخاصة بعد تجاربه السلبية المتكررة مع عالم الفساد والفاسدين واستغلال واحتكار موارد الدولة والاعتداء على المال العام, من خلال التلزيم والمحسوبية والهدر الممنهج, وفي معظم المشاريع العامة تقريبا, أن يكون الحديث عن بناء قادم للعاصمة الجديدة, ليس الا إحدى ثلاثة:
اولا, ملهاة نظرية دقيقة الحبك, لن تجد طريقها للتنفيذ, تشغل الجميع وتلهيهم عن الأسوأ القادم من مشاريع مشبوهة تخص الاردن الجديد, ضمن خارطة الشرق اوسط الجديد, وما سيرافقها من حلول نهائية لمشاكل الإقليم على حساب الجغرافيا الأردنية وأهلها, سبقها ملاهٍ كثيرة موسمية وشبه موسمية.
ثانيا, ان يكون هذا المشروع الضخم, هو مشروع الفساد الأكبر في المنطقة, بعد مشروع الخصخصة سئ الذكر, الذي كلف الوطن معظم موارده ومكامن ثرواته وينابيع خيره, وأكرش بها متنفذين مرتزقة وأدسم حساباتهم بلا وجه حق او مشروعية, في حين زاد الغالبية الأردنية العظمى, فقرا ومعاناة وعوزا,
خاصة وأن هناك تحفظا رسميا غير مسبوق, على مكان واحداثيات المشروع المزعوم, ربما حتى يتم تقاسم الكعكة ونفاذ اخر تلزيمات عطاءات ومناقصات بيوعات وشراء, للجديد والقديم, عمان وعمان. ولنا بشارع الأردن وما شابه, المثل والشاهد.
ثالثا, اما وقد أجهز مشروع التحول الاقتصادي (الخصخصة) على كل عنز يتيمة تدر حليبا, في هذا الوطن, فقد يكون مشروع العاصمة الجديدة او الموازية, بمثابة البقرة التي يُستقدم بها استثمارات خارجية ضخمة يلحق ثمن حليبها بريع ما سبق من فوسفات وبوتاس ومياه وكهرباء ومطار ومينا وغيرها, لتعمق غربة الوطن وفقدانه لخصوصيته وآخر ممتلكاته.
وسوف يظل المواطن الأردني الذي يُلاحق على ورقة التوت التي تستر عورته, هو الخاسر الأكبر, ما دام هناك بين ظهرانينا, من لا يرى في الأردن اكثر من تلك البقرة الحلوب التي ان جف ضرعها, ذبحت للحم والمرق, لا سمح الله ولا قدّر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى