#عقوبة من اقتطع #حق #امرئ #مسلم بيمينه/ ماجد دودين
بتصرف من كتاب إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الإيمان)
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ الله لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ” فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئا يَسِيراً، يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: “وَإِنْ قَضِيبا مِنْ أَرَاكٍ”. رواه مسلم.
وعن الأَشْعثِ بْنِ قَيْسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ أَرْضٌ بِالْيَمَنِ. فَخَاصَمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: “هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ؟” فَقُلْتُ: لاَ. قَالَ: “فَيَمِينُهُ” قُلْتُ: إِذَنْ يَحْلِفَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ – صلى الله عليه وسلم -عِنْدَ ذلِكَ: “مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امرئ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ” فَنَزَلَتْ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ سورة آل عمران الآيَةِ “77”.
وعَنْ وَائِلٍ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ الْحَضَرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنَّ هذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَبِي. فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ – صلى الله عليه وسلم -لِلْحَضْرَمِيِّ: “أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟” قَالَ: لاَ. قَالَ: “فَلَكَ يَمِينُهُ” قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لاَ يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ. فَقَالَ: “لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلاَّ ذلِكَ” فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ – صلى الله عليه وسلم – لَمَّا أَدْبَرَ: “أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لَيَأْكُلَهُ ظُلْما، لَيَلْقَيَنَّ الله وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ”.
وفي رواية: “مَنِ اقْتَطَعَ أَرْضا ظَالِما، لَقِيَ اللّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ” رواه مسلم.
شرح ألفاظ الأحاديث:
اقتطع افتعل من القطع، أي أخذ قطعة من صاحبه، واقتطع أبلغ من (قطع) لأنه يفيد العموم، و(الحق) أعم من المال؛ لأنه كل شيء مالاً كان أو غيره.
(وإِنْ قَضِيبا مِنْ أَرَاك): بنصب ” قَضِيبا ” على أنه خبر كان المحذوفة مع اسمها، وهذا الحذف كثير ومشهور بعد إنْ ” و ” لو ” كقول النبي صلى الله عليه وسلم ” ولو خاتماً من حديد ” وقوله صلى الله عليه وسلم ” قَضِيبا مِنْ أَرَاك ” أي عوداً من شجر الأراك وهو شجر يُستاك بأعواده.
(مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ): صَبْر بفتح الصاد وسكون الباء، وأصل الصبر الحبس والإمساك، ويمين الصبر: اليمين التي يحبس الحالف نفسه عليها.
(هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ): آثم، أي هو حين أقدم على يمينه فاجر؛ لتعمده الكذب، وتسمى هذه اليمين الغموس.
(أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟): البينة ما يبين الحق من الشهود، قوله: ” فَيَمِينُهُ ” أي: إذا لم تكن لك بينة فلك يمينه.
(مِنْ حَضْرَ مَوْتَ): بلدة قرب عدن.
(وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ): بكسر الكاف وسكون النون حي باليمن، والنسب إليها كندي بسكون النون.
(غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي): أي غصبها مني قهراً.
من فوائد الأحاديث:
الفائدة الأولى: الأحاديث دليل على عظم ذنب أكل حقوق الناس بالحلف الكاذب ولو كانت الحقوق يسيرة، فإن الظلم عاقبته وخيمة مهما كان قدر الظلم ولو كان بمقدار عود الأراك فكيف بمن جمع مع ظلمه يمينه الكاذب؟، فمن فعل ذلك فقد تعرَّض لعقوبات ثلاث جاءت في أحاديث الباب:
” فَقَدْ أَوْجَبَ الله لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ “.
” لَقِيَ اللّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ”.
” لَيَلْقَيَنَّ الله وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ ” فإما أن يقال: أن المقصود بالإعراض هنا: الغضب، أو يقال: بجمع الحالين الغضب والإعراض، ولا مانع من اجتماعهما.
الفائدة الثانية: حديث أبي أمامة رضي الله عنه دليل على أن الوعيد شامل لكل حق اقتطعه العبد ظلماً بيمينه الفاجرة، وليس هذا خاص بالمال كما جاء في حديث الأشعث وحديث وائل بن حجر رضي الله عنه، وإنما عام في كل حق بقوله صلى الله عليه وسلم: ” مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ”
الفائدة الثالثة: الأحاديث دليل على عظم التهاون باليمين ومن صور ذلك الحلف الكاذب، وهي تسمى: اليمين الغموس وأحاديث الباب دليل على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها؛ لعدم ذكر الكفارة في الأحاديث، وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 77]، وبعدم الكفارة قال الجمهور.
قال ابن بطال – رحمه الله -: ” وبهذه الآيات والحديث احتج جمهور العلماء في أن اليمين الغموس لا كفارة فيها، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر في هذه اليمين المقصود بها الحنث والعصيان والعقوبة والإثم ولم يذكر هاهنا كفارة، ولو كان ها هنا كفارة لذكرها…قال ابن المنذر: والأخبار دالة على أن اليمين التي يحلف بها الرجل يقتطع بها مالاً حراماً هي أعظم من أن يكفرها ما يكفر اليمين، ولا نعلم سنة تدل على قول من أوجب الكفارة، بل هي دالة على قول من لم يوجبها” [شرح البخاري لابن بطال (6 / 133-134)].
الفائدة الرابعة: الأحاديث دليل على أنه عند التنازع والترافع للقاضي أن على المدعي البيّنة، وعلى المدَّعي عليه اليمين، وجاء بيان المراد بالبينة في حديث ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:” شاهداك أو يمينه ” فالبينة اثنان من الشهود على الدعوى أو كما قال تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ [البقرة: 282] فإن لم تكن للمدعي بينة، فيحلف المدّعى عليه على عدم صحة دعوى المدعي.
قال القرطبي رحمه الله: ” دليل على أن المدعي يلزمه إقامة البينة، فإن لم يقمها حلف المدعي عليه، وهو أمر متفق عليه، وهو مستفاد من هذا الحديث، فأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: ” البينة على المدعى واليمين على من أنكر ” فليس بصحيح الرواية لأنه يدور على مسلم بن خالد الزنجي لكن معنى متنه صحيح بشهادة الحديث المتقدم له.” [المفهم (1/ 348 – 349)].
ومما يتعلق بهذا الشأن من فوائد أحاديث الباب ما يلي:
أن البينة مقدمة على اليمين وبها يكتفي إن أثبتها المدعي ولا حاجة إلى اليمين إلا مع عدم البينة لقوله صلى الله عليه وسلم للمدعي ” هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ؟” فَقُلْتُ: لاَ. قَالَ: “فَيَمِينُهُ “.
أن اليمين وإن كانت فاجرة فهي معتبرة قضاءً وبها يُحكم لأن الأحكام القضائية مبنية على الظاهر والله يتولى السرائر، بدليل قول الحضرمي عن الكندي الذي سيحلف: “: يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لاَ يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ” لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلاَّ ذٰلِكَ ” – قال النووي -رحمه الله -: ” وفيه أن يمين الفاجر المدعى عليه تقبل كيمين العدل وتسقط عنه المطالبة بها”. [شرح النووي لمسلم (2/ 342)]
أن حكم الحاكم لا يجيز لصاحب اليمين الفاجرة فعله، بدليل موعظة النبي صلى الله عليه وسلم للكندي حين أراد الحلف حيث قال له: ” أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لَيَأْكُلَهُ ظُلْما، لَيَلْقَيَنَّ الله وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ ” واستحب العلماء التذكير والموعظة في هذا الموطن لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال النووي رحمه الله: ” وفي هذا الحديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجماهير أن حكم الحاكم لا يبيح للإنسان ما لم يكن له “. [شرح النووي لمسلم (2 / 341)].
الفائدة الخامسة: الأحاديث دليل على إثبات صفة الغضب لله تعالى، وهي من الصفات التي دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ﴾ [الممتحنة: 13]، ومن السنة أحاديث الباب، وأجمع السلف على إثبات صفة الغضب لله تعالى كما يليق به سبحانه.
قال ابن القيم رحمه الله: ” إن ما وصف الله سبحانه به نفسه من المحبة والرضا والفرح والغضب والبغض والسخط من أعظم صفات الكمال ” [الصواعق المرسلة (4 / 1451)].
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: ” فإن قال قائل: هل الغضب صفة كمال؟
فالجواب: نعم، الغضب في محله صفة كمال؛ لأنه يدل على قدرة الغاضب على أن ينتقم، ولهذا لو اعتديت على إنسان يستطيع أن يقتص منك، لوجدته غاضباً، ويقابلك بمثل ما اعتديت به. لكن لو اعتديت على إنسان صغير، لا يستطيع أن يقابلك؛ فماذا يفعل؟ يبكي ولا يغضب، فالغضب في محلة صفة كمال، ولهذا اتصف الله تعالى به ” [التعليق على مسلم (1 / 437)].