
« #عقوبات على #القضاة أم عقوبات على #العدالة؟ اختبارٌ قاسٍ لهيبة #القانون_الدولي»
بقلم: أ.د. محمد تركي بني سلامة
في تطوّر غير مسبوق يعيد رسم حدود القوة والعدالة على الساحة الدولية، فرضت الولايات المتحدة الأميركية عقوبات مباشرة على عدد من قضاة المحكمة الجنائية الدولية (International Criminal Court – ICC)، في سابقة هزّت أسس النظام القانوني العالمي. ومن بين من طالتهم هذه الإجراءات القاضي الفرنسي Nicolas Guillou وأربع قاضيات بارزات داخل المحكمة: Solomy Balungi Bossa من أوغندا، و Luz del Carmen Ibáñez Carranza من بيرو، و Reine Alapini-Gansou من بنين، و Beti Hohler من سلوفينيا.
جاءت هذه العقوبات الأمريكية ردًّا على تحقيقات وأوامر توقيف أصدرتها الـ ICC بحق مسؤولين إسرائيليين، وهي خطوة فسرتها واشنطن باعتبارها “تجاوزًا غير مقبول يمسّ حلفاءها ويهدد مصالحها”. لكن تأثير هذه الإجراءات يتجاوز بكثير حدود الخلاف السياسي، ليضرب مباشرة قلب فكرة العدالة الدولية. حين يصبح القاضي ملاحقًا بسبب قراره، فإن الرسالة التي تُرسل إلى العالم أخطر بكثير من مجرد خلاف قانوني: العدالة مقبولة فقط ما دامت لا تقترب من مناطق النفوذ السياسي.
القاضي Guillou كشف مؤخرًا أن العقوبات جعلته فعليًا “مُدرجًا خارج النظام المصرفي العالمي”، وهو اعتراف يلخّص حجم الضغط السياسي الذي تتعرض له مؤسسة قضائية كان يُفترض أن تكون محمية من التدخلات والأجندات. إن معاقبة قضاة ICC بهذه الطريقة لا تعني فقط الاعتراض على قراراتهم، بل تمثل تهديدًا مباشرًا لاستقلال القضاء الدولي ذاته.
أما الأمم المتحدة، فقد أعربت عن “قلق بالغ” إزاء الخطوة، مؤكدة أن فرض عقوبات أحادية على مسؤولين قضائيين “يضر باستقلال القضاء الدولي ويُقوّض مبدأ عدم الانتقائية في العدالة”. لكن لغة القلق لم تعد كافية في عالم تُحاكم فيه المحكمة بدلًا من أن تُحاكم الآخرين.
تداعيات هذه الخطوة لن تقف عند حدود ICC، بل ستنعكس على سلوك الدول وتعاملها مع القانون الدولي. الدول الصغيرة والمتوسطة، التي كانت ترى في المحكمة الجنائية ملاذًا قانونيًا ضامنًا ضد انتهاكات الدول القوية، باتت اليوم أكثر حذرًا وربما أكثر خوفًا. أما الرسالة المضمرة فمباشرة: “التعاون مع العدالة الدولية قد يكلّفك الكثير إذا لم يتوافق مع مصالح القوى الكبرى”.
من زاوية نظرية، يمثّل هذا الحدث تحديًا صارخًا للمدرسة البنائية (Constructivism) في العلاقات الدولية التي بنت عقودًا من التفكير على فرضية أن الأفكار والقيم المشتركة تبني النظام الدولي. إلا أن العقوبات على قضاة ICC تشير بوضوح إلى أن المتغير الحاسم ليس الفكرة، بل من يمتلك القوة لتحديد أيّ الأفكار تُقبل وأيّها تُسحق. فإذا كان تطبيق العدالة يتحوّل إلى خطر سياسي، فهذا يعني أن القوة لا تزال الإطار الحقيقي الذي يشكّل السلوك الدولي، مهما تعددت الخطابات الأخلاقية.
في المحصلة، إن الأزمة الحالية لا تختبر مجرد مؤسسة قضائية، بل تختبر صدقية النظام الدولي بكامله. فعمق الشرخ الذي أحدثته العقوبات الأميركية يطرح سؤالًا مؤرقًا: هل ما يزال القانون الدولي قادرًا على أداء وظيفته عندما يتعارض مع إرادة دولة كبرى؟ وهل يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تبقى رمزًا للعدالة العالمية إذا كان قضاتها أنفسهم مهددين بالعقوبات؟
ما يجري اليوم يشكّل لحظة مفصلية. فإما أن تنجح المؤسسات الدولية في حماية استقلال القضاء الدولي، أو أن نقبل بواقع جديد: عدالة تُمارَس ضمن الحدود المسموح بها سياسيًا، وقانون دولي جميل في النص… لكنه محدود الأثر في الواقع.
إن معاقبة القضاة بدلًا من حماية قراراتهم ليست مجرد إرباك مؤسسي، بل تمهيد لمرحلة خطيرة يصبح فيها تطبيق القانون مخاطرة، ويصبح القاضي هدفًا، وتصبح العدالة نفسها موضع شك. وفي عالم كهذا، لا يكفي أن نقلق؛ بل يجب أن نعترف أن العدالة الدولية تقف اليوم أمام أهم اختبار في تاريخها.




