عقدة الدور الإقليمي، وحصار الأردن مجدداً

د.نبيل العتوم

رئيس وحدة الدراسات الإيرانية

مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

بلا شكٍّ.. فقدَ الأردنُّ ما تبقى من دوره الإقليمي لصالح قوى ناشئة كانت إلى وقت قريب بلا دور ولا تأثير، حيثُ تراجعَ هذا الدورُ وسطَ المعمعة والفوضى الإقليمية، والتي كانَ فيها الأردنُّ عبرَ تاريخه صاحب كلمة وحظوة في بعض الملفات.

مقالات ذات صلة

واليوم انتقلَ مركزُ الثقل العربي إلى عواصم الخليج المتخمة بسلاح الاقتصاد والثروات والذهب الأسود، فالرياضُ ترعى الملفين اليمني، والسوري . وأبوظبي ترعى الملف الليبي، والفلسطيني، والسوري، وقطرُ تتقاسم ُ الاهتمامَ معهم حولَ الملف الفلسطيني، والليبي، واليمني، إلى جانب مصر التي تنازع الجميع على الملف الفلسطيني، والليبي، والسوري .

الأخطرُ أنَّ الملفَّ الفلسطيني قد خرج من تأثير عمان تدريجياً، بعدَ أنْ استضافتِ الدوحة قيادات المقاومة الفلسطينية سابقاً، واحتضانها لحماس الفاعل الحقيقي في ملف غزة، وحاولت قطر مدَّ حبال التواصل مع جُلّ الأطراف الفلسطينية، أما مصر فقد تولّت الملف الأمني، ومحاولة نسج إستراتيجية جديدة ترعاها المخابرات المصرية، ومحمد دحلان للعبور إلى غزة، ومحاولة بناء مقاربة قد تضفي إلى حل سياسي يفكك معه سلطة الحكم الذاتي، بينما اختارت الأردنُّ الانحياز إلى السلطة الفلسطينية التي أصابها الوهن بفعل التجاذبات السياسية، والمشاكل الاقتصادية التي تهدّد بقاءها في أية لحظة، وتعيشُ حالات من المناكفات مع حماس، ودحلان، ومن يقف ورائهم … .

لا شكَّ بأنَّ مسارَ الأحداث والتطورات أثبت فقدان عمّان لتأثيرها الشامل على الملف الفلسطيني. كما تراجع دور الأردن عربياً، ومارس دبلوماسية النأي بالنفس عن الملفات والأزمات العربية، خشية من عواقب الانخراط بأية أزمة، وتحسباً لأية تداعيات ، وتكاليف سياسية وأمنية واقتصادية …. .

لكن ما هي الأسباب لتراجع الدور الأردني إقليمياً ؟ :

نعتقدُ أنَّ هناك عدة أسباب أساسية وراءَ الضغط لدفع تراجع الدور الإقليمي لعمّان :

-أولاً : الوضع الاقتصادي الصعب، حتى باتَ الأردنُّ يعتمدُ بشكل أساسي على المساعدات والمشاريع والاستثمارات الخليجية، خصوصاً من الرياض وأبو ظبي والكويت؛ الأمر الذي جعلَ الأردنُّ يمارسُ دبلوماسية المجاملة لربط مواقفه السياسية بمدى قبول ورضا هذه الدول عن سياسات الأردن الإقليمية، والتي تريده منسجماً ومتناغماً مع سياساتها، وبالمقابل وضعت سقفاً لطبيعة ومستوى العلاقات مع الأردن؛ حيثُ رفضتْ صراحة ضمّ عمان إلى نادي دول مجلس التعاون الخليجي.

-والسبب الثاني : هو فقدانُ البوصلة السياسية تجاه دول إقليمية ضامنة لمساعدة الأردن، وإسناده عسكرياً في حال تعرضه لأية أخطار، كما كانَ العراق يمثل زمن صدام حسين .

-أما السبب الثالث : فهو غيابُ المشروع العربي الذي يضمن الضغط على إسرائيل للقبول بالمبادرة العربية مقابل تطبيع شامل، ولاسيّما بعد الربيع العربي، والذي أسهمَ في انهيار وتفكك المنظومة الإقليمية، بعدَ تدمير سوريا، واستنزاف القدرات المصرية، وحالة الحمى غير المسبوقة من جانب الدول الخليجية لنسج علاقات طبيعية مع إسرائيل، وعدم ربط ذلك بتحقيق تقدم سياسي على الأرض، إلى جانب رضوخ دول المنطقة بمجملها لتكون رهينة لسياسات القوى الدولية مع وصول (ترامب)، وما يمثلهُ ذلك من تحدٍّ خطيرٍ، خاصةً ما يتعلق بإيجاد حلول بالنسبة للقضية الفلسطينية، قد تكون على حساب الأردنُّ، وهو ما باتَ متوقعاً .

-والسبب الرابع : هو إضعافُ الدور الأردني لصالح الدول التي تمّ ذكرها، واقتصار دور الأردنّ على الاستشارات ومحاولات الانخراط العسكري والأمني في بعض أزمات المنطقة، بما ينسجم مع السياسة الإقليمية العامة .

–أما السبب الخامس : فهو ضعف الدور المصري الذي كان داعماً وشريكاً سياسياً واستراتيجياً بالنسبة إلى الأردن، ودوره المهم في بعض الملفات، ومحاولة توظيف الدول الخليجية استغلال الحالة التي وصلت إليها مصر اقتصاديا وأمنياً واجتماعياً … مما أسهم في ضعف دورها الإقليمي، وهذا يعدُّ ذكاءً خليجياً في استغلال الظروف وبسط النفوذ على القضايا الرئيسية في المنطقة، وبالتالي محاولة تمثيل العرب في المحافل الدولية بسبب قوة الاقتصاد، إلى جانب نأي، أو اعتزال المجموعة المغاربية للعمل السياسي العربي .

الأردنُّ ولكلّ هذه الأسباب مجتمعة لا يجدُ أيّ ميزة، أو سلعة للترويج لدوره الخارجي، إلا ما يتعلق في موضوع الحرب على الإرهاب، وكونه شريكاً موثوقاً للتعامل معه لمكافحته، إلى جانب دوره (الجيو-سياسي) على صعيد جبريته الجغرافية مع عدد من الأزمات الإقليمية؛ ولاسيّما السورية والعراقية .

والمؤكّدُ بأنَّ الظروفَ والمتغيرات الإقليمية هي التي لعبت دوراً محورياً في تغيير وتبديل الدور الإقليمي للأردن مقارنة بذات الدور في مراحلَ سابقة.

بلا شكٍّ فإن الدور الإقليمي للأردن تعرض لضربات مؤثرة متتابعة، اضطره أن يضحي كي يتنازلَ عن دوره الإقليمي للحفاظ على المصالح الأردنية، لأنَّ معاكسة المتغيرات الإقليمية، سيكونُ لها هذه المرة ارتدادات داخلية خطيرة وغير محتملة؛ لأنَّ الذاكرة السياسية التاريخية الأردنية لا يمكنها نسيانُ الحصار السياسي والاقتصادي الذي تم فرضه على الأردن إثرَ حرب الخليج 1991م، وكان المقصودُ منها أساساً هو الإجهازُ على الدور الإقليمي للأردن نهائياً من جانب الخصوم الخليجيين تحديداً، الذين وجدوا في موقف الأردن فرصة مناسبة لتصفية الحسابات وإعادة إنتاج الدور الإقليمي للأردن بشكل ينسجم مع سياساتهم على الرغم من قناعة صناع القرار السياسي والأمني بأخطاء السياسات الخليجية الكارثية، والتي نرى نتائجها تباعاً من خلال مداخل الأزمات الإقليمية، لكن الأهم عند الأشقاء الخليجيين أنْ يبقى الأردنُّ دولة ضعيفة ومثقلة بمشاكلها الاقتصادية والأمنية، مما يسمح بتقييد قراراتها الخارجية، وتقليص هامش تحركها السياسي الإقليمي .

المؤكّدُ كذلك بأنّ توسّلَ الأردنّ للذهاب إلى مفاوضات مدريد، وتوقيع اتفاقية (وادي عربه) مع إسرائيل في العام 1994 م، كانَ يمثل استدارة أردنية لمحاولات الضغط الإقليمي القاتل في المجالات السياسية والاقتصادية، ومحاولة إنتاج دور الأردن الإقليمي بحلته الجديدة، والغريبُ أنَّ الأخوة العرب الخليجيين قد رحبوا بحفاوة بعودة الأردن إلى الحضن العربي والمجتمع الدولي بعد التوقيع على اتفاقية السلام مع إسرائيل، وإذا كان البعضُ ينتقدُ الأردنّ على عقده لمعاهدة السلام آنذاكَ، فإنَّ من المؤكد أنّ الأردنَّ كان يتصرف بمنطق الهارب من الرمضاء إلى النار؛ لينجو بنفسه بعد أن سعت دول عربية لحصاره وتدميره اقتصادياً، ومصادرة دوره وقراراته، وحشره في الزاوية الميتة، ودفعه إلى السلام مع إسرائيل عنوة
هل سيعيد التاريخ نفسه، ويُحاصر الأردن :

لا شكّ بأنّ التاريخَ يعيدُ نفسه، فالحفاظُ على الأردنّ وبقائه مستقراً وسطَ الإقليم المفروض أن تكون حاجة عربية أولاً، خاصة أن هناك مخططات بدأت تلوح في الأفق لتجريد الأردن من دوره الفاعل معَ الملفّ الفلسطيني، الذي يشكل القضية المركزية بالنسبة إلى الأردنّ .

الحقيقة أن هناك ما يحاك للاستدارة، والالتفاف على الدور الأردني، بخصوص هذا الموضوع تحديداً، وتجريده من أوراقه التفاوضية عبرَ إعادة إنتاج أدوار لقوى إقليمية عربية، في ظل مصاعب تتعلق بخلق إشكاليات للدور الأردني بفعل المتغيرات والتطورات التي جرت في المنطقة على صعيد هذا الملف، بلغت ذروتها بدخول بعض الدول الخليجية على خط القضية الفلسطينية باستراتيجيات واضحة وأدوار محددة .

فالوضعُ الإقليمي برمته قد تغير، ونستطيعُ القول بتجرد أن المنطقة غارقة في الفوضى، إلى جانب دول أخرى مقبلة عليها، والمشكلة أنه لا يوجد هناك جبهة عربية واسعة لمواجهة تداعيات الملفات المتفجرة في المنطقة، إلى جانب كلفة الدور الإقليمي لأي دولة سيكون باهظاً في ظل الصراعات السياسية الداخلية لبعض الدول العربية، وينطبق الأمر بالذات فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية الغارقة في أتون التجاذبات والصراعات بين فتح وحماس، ودخول قوى وأطراف على الخط مما ينبئ بانفجارها، واستغلال الجانب الإسرائيلي لهذا الملف للتأثير على الأردن ومساومته دون ظهير عربي داعم؛ وببساطة شديدة، وبعيداً عن التورية والالتفاف فقد تنضم دول عربية خليجية للضغط على الأردن ومحاصرته اقتصادياً للقبول بحلول ستكون على حساب مستقبله وأمنه وخارطته الجغرافية والديموغرافية .

صحيحٌ أنَّ الأردنّ جوبه، وحوصر حتى يتراجعَ دوره الإقليمي، لكننا أمامَ معضلة حقيقية، بأن إعادة إنتاج دوره الإقليمي بطريقة جديدة، ستكون صعبة في ظل مجموعة (اللوبيات) السياسية العربية الطارئة التي تشكلت داخل المنظومة العربية والتي استنزفت طاقاتها في الإنفاق على حالة التشظي العربي غير المسبوقة وفق المثل الأردني ” خراب البيوت بده مواقفه ” بمعنى ” تدمير الأمة يراد له جهد وبذل “، من هنا باتَ الأردنُّ يمارسُ دوره من خلال مظلة جماعية، بدأت بالتفكك، مما يضعف مواقف هذه الدول ومن ضمنها الأردن، ويجعل قرارتها المصيرية رهناً بالضغوط الذي تمارسه هذه الدول، والتي تخضع ضمناً للإرادة الأميركية غير المنضبطة مما يجعلنا في الأردن أمام ملفات واستحقاقات خطيرة متفجرة وحافلة بالمفاجآت غير السارة في ذات الوقت ، وهي المفاجآت التي لا تقدر دولة واحدة كالأردن بمفردها على احتمالها أو التعامل مع نتائجها، خاصة ما يتعلق منها بالقضية الفلسطينية ودخول قوى عربية خليجية، ستجد من مصلحتها ممارسة المزيد من الضغوطات على الأردن، ومحاصرته مجدداُ من خلال اتفاقات وشركات اقتصادية لم ترَ النور لجهة الرضوخ، خدمة لمصالحها، وتثبيتاً لمركزها أمام حالة التجاذبات والصراعات الداخلية، وتعزيز لمكانتها الإقليمية أمام الولايات المتحدة وإسرائيل .

يتحولُ الدورُ الإقليمي لعمّان اليوم إلى دور أخر، هو الانكفاء جبراً للحفاظ على خصوصية الداخل الأردني ورد تأثيرات الإقليم عليه، بعد أن أصبح مستحيلاً التأثير على الوضع الإقليمي ليس لضعف في السياسية الأردنية، وإنما لشدة التشابك والتعقيد في الإقليم ذاته، والدور الإقليمي لا يصح إلا مع وجود أطراف وكيلة محددة عن كل ملف، بحيث بات معه الملف الفلسطيني بعد فقدان الأردن لجزء من دوره المحوري فيه، بات يُمثل التعامل معه من خلال عدد من الأطراف المتشابكة ” المحور السعودي ونقيضه المحور القطري، وبات الأردن كمن يمشي على لعبة شد الحبل فإذا اقتربت من طرف غضب الطرف الأخر، ومن المستحيل إذن مواصلة دور إقليمي بذات مواصفات الدور الإقليمي السابق جراء حالة الصراع والتشابك المفتوحة على كل الاحتمالات، من هنا يحاول التعويض من خلال دبلوماسية التواصل الشعبي مع كافة القطاعات الشعبية في الضفة الغربية وغزه، إلى جانب الولاية على المقدسات الإسلامية والمسيحية لجهة تعزيز دوره في هذا الملف .

أمام هذه المعطيات، لا شكّ بأننا في الأردن بتنا على المحك، ويمكنُ القول أنّ التوسل بالدول العربية مرة أخرى للضغط على الأردن هو أحد الاحتمالات الواردة، وهو بالمناسبة أحد الاستراتيجيات الغربية التي سوف تستمر، والهدف منه تقديم المزيد من التنازلات بخصوص القضية الفلسطينية، مما سيُسهم، ويُسرع في ذلك حقيقة الموقف الأردني من القضية الفلسطينية، وشكل الحل، وهذا سيُعيد إنتاج حالة الاصطفاف لتحالف دول الأمس التي ترى في الموقف الأردني من الأزمة القطرية غير منسجم معها، يقابله تحالف قطري بصبغة إقليمية /تركية – إيرانية/ لا تنسجم واقعاً مع التوجهات والسياسات الأردنية .

بات بحكم المؤكد أنه وفقاً لهذه المقاربات فإن الإطار الإقليمي للدول العربية المستقرة هذه قد تعرض لتغيرات جذرية بفعل ما جرى من أحداث وتطورات، إلى جانب معركة كسر العظم التي اندلعت حديثاً داخل المنظومة الخليجية قد أتت فعلها المدوي، من هنا فإن الحديث عن الدور الأردني بذات مواصفات الدور السابق، هي عبارة عن عمى ألوان لن تحمي الدولة الأردنية وسط هذا الإقليم المضطرب، والمفتوح على كل الاحتمالات، مما سيرتب على عمّان أعباء، وتكاليف جديدة نسألُ الله أنْ تطيقَ احتمالها .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى