سواليف
في دهاليز #القصور تقع الحقائق العارية، هنالك حيث يتبسّط #الخليفة أو الملك مع حاشيته وزوجاته وجواريه وأبنائه يكمن مشهد مهم من مشاهد صُنع القرار، وهو تحكم #النساء في دهاليز القصور من وراء ستار، وكم رأينا في التاريخ أمثلة لا تُحصى على هذه الحقيقة! بعضها دُوّنت واشتهرت بين الناس، وبعضها الآخر سُكت عنه.
أحد هذه الأمثلة بدأ في عهد الخليفة العباسي المعتضد بالله أحمد بن الموفّق طلحة بن المتوكل على الله (279-289هـ)، وهو أحد الخلفاء الذين أعادوا إلى #العباسيين هيبتهم وقوتهم من جديد بعدما دخلت دولتهم في طور من الضعف والاستهانة منذ وفاة جده الخليفة المتوكل على الله سنة 247هـ. وكان المعتضد قد أُعجب بجارية تُركية، وقيل رومية يونانية، أنجب منها ابنه وولي عهده المقتدر بالله، وكان لشدة شغبه في طفولته وصياحه أن أسمى والدُه المعتضدُ أمَّه “شَغَباً” هي الأخرى، ولم يكن المعتضد -وهو قوي الشكيمة والشخصية- ليترك مجالا للنساء أو #الجواري أو القهرمانات -وهنّ المشرفات على القصور وأوضاع الحريم- أن يتدخلن في خلافته أو إدارته لشؤون الدولة.
لكنه أيضا لم يكن يدرك أن للقدَر حُكمه، وأن وفاته في عام 289هـ وابنه المقتدر لمّا يزل في مرحلة المراهقة ابن ثلاثة عشر عاما ستدفع بدولة بني العباس وخلافتهم إلى منحًى آخر تتحكمُ فيه النساء في أعناق الرجال، بل وفي شؤون الدولة كبيرها وصغيرها من الوزراء وقادة الجيوش وكُتّاب الدواوين إلى ما دون ذلك، ليس في العراق وبغداد فحسب، بل وفي أقصى ما تصل إليه أيديهن من قوة وسلطة.
كانت ” #شغب” هي بطلة هذه القصة، وقد عملت بكل قوتها ومالها وجبروتها ونفوذها على حماية سُلطة ابنها بكل سبيل ممكن، فأصبحت هي الخليفة على الحقيقة، والملكة المتنفذة في واقع الحال، فكيف تحكّمت شغب في أعناق رجال الدولة العباسية؟ وكيف استطاعت أن تحمي ابنها من انقلابين حقيقيين كادا أن يفتكا به ويُقصياه عن العرش العباسي؟ وكيف كانت نهايتها ونهاية ابنها الخليفة العباسي المقتدر بالله؟
الوزراء في أيدي شغب
إذا كان الخليفة العباسي قد أطلق على جاريته وأم ولده شغب، فقد تبدل اسمها بعد تولية ابنها المقتدر بالله جعفر الخلافة إلى “السيدة”، وقد استغلت سيدة القصر الجديدة صغر سن ولدها وضعف إرادته لتبرز قوتها وشخصيتها في العديد من ملفات الدولة العباسية الحساسة، وعلى رأسها الجيش والوزارة وحتى القضاء. وكان أول ما اهتمت به أن أنشأت لنفسها ديوانا خاصّا يوازي في أهميته ديوان الوزارة، كان يدير شؤونه كاتب ضليع اسمه أحمد بن العباس بن الحسن، يجري مجرى الوزير، وعيّنت لها قهرمانة تدعى “ثمل”، وهي الجارية التي تتسلم مهمات عالية في القصر وبعض الشؤون المالية الأخرى من أملاك السيدة، فتقوم بتنفيذ أوامرها، وتتسلم مقاليد إيصال الرسائل بينها وبين الخليفة[1].
كما أدّت السيدة شغب دورا بارزا في تعيين الوزراء وعزلهم بمنتهى السلاسة والأريحية، ففي العام التالي على تولي المقتدر بالله (تحديدا عام 296هـ) دبر مجموعة من الإداريين، وعلى رأسهم الوزير العباس بن الحسن، مؤامرة انقلابية لتعيين خليفة جديد متمثل في شخص الشاعر العباسي ابن المعتز، واستطاعوا بالفعل تحقيق هذه المؤامرة لكن ليوم واحد فقط، قبل أن تتفق السيدة مع الإداري المحنّك أبي الحسن علي بن الفرات وتنفق الأموال على الرجال والقادة الذين تمكنوا من وأد هذه المحاولة الانقلابية سريعا، والقبض على الوزير السابق العباس بن الحسن، وتعيين ابن الفرات الوزارة (تولى المنصب ثلاث مرات في أوقات مختلفة، أولها (296-299هـ/908-912م) بعد القضاء على ذلك الانقلاب الفاشل[2].
على أن شغب أدركت مدى خطورة الوزير الجديد ابن الفرات، ذلك الرجل الذي يمكن وصفه بقائد البيروقراطية العباسية آنذاك، والمُطّلع على دهاليز الدواوين والإدارات، والذي حظى بمكانة مرموقة كذلك عند قادة الجيش العباسي، وهو نفوذ يُمْكن أن يُسهّل له إنجاح أي انقلاب آخر على الخليفة المقتدر، ومن ثَم أوقعت السيدة شغب بالوزير ابن الفرات وصادرت أملاكه وعزلته ونهبت داره بحجة شكوى قادة الجيش منه، وعيّنت بدلا منه رجلا أكثر ولاءً لها، وهو محمد بن عبيد الله بن خاقان، الذي عرض عليها مئة ألف دينار مقابل الوزارة، فوافقت على ذلك، ثم لم يسلم ابن خاقان من العزل والمصادرة هو الآخر من قبل السيدة أم الخليفة.
ومن بعده ارتقى الوزارة العباسية علي بن عيسى، وكان رجلا مهذبا خبيرا بتقاليد الوزارة، وقد دأب على إرسال الرسائل إليها، وقد وصلتنا إحدى هذه الرسائل التي قال في صدرها، والتي تدلل على مقدار شأن تلك السيدة: “بسم الله الرحمن الرحيم، أطال الله بقاء السيدة، وأدام عزّها وتأييدها، وأسبغ نعمه عليها، وزاد في إحسانه إليها، ومواهبه الجميلة، وآلائه الجزيلة، وأقسامه الهنيئة، وفوائده السَّنِيّة عندها، وبلغها في سيدنا أمير المؤمنين -أطال الله بقاءه، وأدام له العز والتمكين، والنصر والتأييد- غاية محبتها وأفضل أمنيتها، ووصل أيام سرورها بعافيته، واغتباطها برؤيته، ووقاها فيه وفي نفسها وفي الأمراء، أستودعهم الله وأستوهبه إياهم كل سوء محذور ومخوف، بمنه ورأفته”[3].
وقد كان الوزير علي بن عيسى من أعف الوزراء العباسيين وأكثرهم ثقافة وعلما، ورغم ذلك عزلته شغب عن الوزارة لسبب تافه، وبتدخل من جواري ونساء القصر. ففي عام 316هـ أرسلت السيدة قهرمانتها إلى الوزير علي بن عيسى لتتفق معه على ما يحتاج إليه حرم الدار (قصور الخلافة) والحاشية في عيد الأضحى من الكسوات والنفقات، فوصلت إليه وهو نائم، وأخبروها أنه نائم ولا يجسر أحد على إيقاظه، وقالوا لها: “انتظري ساعة”، فغضبت القهرمانة أم موسى، ونقلت الخبر إلى الخليفة المقتدر وكانت أمه السيدة معه، فكانت تلك الحادثة سببا في عزل الوزير، بل وحبسه، واعتُبر ذلك ضربة موجعة للوزير ومكانة الوزارة معا[4].
سطوة المال والقضاء
كان وزراء شغب وقوادها وكُتّابها معرضين على الدوام لمصادرة أموالهم وأملاكهم متى ما تغيرت عليهم، حتى لو كان ذلك لأسباب هينة. على سبيل المثال، استولت السيدة على أموال كاتبها محمد بن عبد الحميد بعد وفاته لكونه رفض استلام منصب الوزارة، وكان المبلغ المستولَى عليه ضخما، قُدّر بمئة ألف دينار، كما كانت لا تتردد في الحصول على الأموال عن طريق الرشوة عند تعيين الوزراء، كما رأينا مع ابن خاقان، ولهذا التجأ إليها الوزراء عند وقوع المصائب والاضطرابات وتزايد الحاجة إلى المال.
وقد برز دورها السياسي حين أسهمت في رفع الخطر المحدق بالعاصمة بغداد خلال وزارة علي بن عيسى، حين تبرعت من مالها الخاص بمبلغ ضخم قدره خمسمئة ألف دينار (120 مليون دولار بمعايير عصرنا)، ليُنفق على الجنود الذين كانوا يواجهون خطر القرامطة آنذاك، وقيل إنها تبرعت بثلاثة ملايين دينار ذهبي (720 مليون دولار)، كما تدخلت في حل بعض الأزمات المالية التي أصابت مالية الدولة بعجز كبير، بسبب قلة الواردات وكثرة النفقات، لا سيما نفقات دار الخلافة من الحاشية والخدم[5].
كما تدخلت في شؤون القضاء، وكان أعجب الحوادث أنها عيّنت لأول مرة في تاريخ الإسلام قهرمانتها (جاريتها) المدعوة “ثمل” في منصب قضاء المظالم على رؤوس الأشهاد في بغداد. ويقول المؤرخ “عريب” عن تلك الحادثة التي وقعت سنة 306هـ: “في هذه السنة، أمرت السيدة أم المقتدر قهرمانة لها، تُعرف بثَمَل، أن تجلس بالرُّصافة (في بغداد) للمظالم، وتنظر في كُتب (شكاوى) الناس يوما في كُل جُمعة، فأنكر الناسُ ذلك، واستبشعوه، وكثُر عيبهم له والطعن فيه، وجلست أول يوم، فلم يكن لها فيه طائل، ثم جلست في اليوم الثاني، وأحضَرت القاضي أبا الحسن، فحسُن أمرها وأصلَح عليها، وخرجَت التوقيعات على سداد، فانتفع بذلك المظلومون، وسكَن الناس إلى ما كانوا نافروه من قعودها ونظرها”[6].
الجيش يكسر شغب وابنها
لم تتدخل شغب في شؤون الوزارة والقضاء فحسب، بل وطوّعت قادة الجيش العباسي لنفوذها وسطوتها، وكانت السبب في إشعال الفتنة بين ابنها المقتدر وبين قائد الجيش مؤنس المظفر، وكان مؤنس من أشد الناس إخلاصا لها، ورغم ذلك حاولت التخلص منه، لكن مؤنسا كان ذكيا واعيا بهذه المحاولة، وربما كان المحرك لثورة الجنود ضد الخلافة، فيذكر المؤرخ أبو الفدا أن “الجند والقواد أنكروا على المقتدر من استيلاء النساء والخدم على الأمور، وكثرة ما أخذوا من الأموال”[7].
ففي السنوات الأربع الأخيرة من خلافة المقتدر بالله، ساءت الأوضاع المالية للدولة، وتمرد الجيش بسبب قلة النفقات والرواتب، ما دفع قائد الجيش مؤنس لمطالبة الخليفة المقتدر وأمه بالأموال اللازمة لدفعها للجنود والقادة، ثم تطور الأمر إلى العصيان المسلح (سنة 321هـ)، وهنا دخل المقتدر خائفا من ثورة مؤنس والجيش على أمه قائلا: “قد ترين ما وقعتُ فيه، وليس معي دينار ولا درهم، ولا بد من مال يكون معي، فأعينيني بما معك. فقالت له: قد أخذت مني يوم سار القرمطي إلى بغداد ثلاثة آلاف ألف دينار، وما بقيت لي بعدها ذخيرة إلا ما ترى. وأحضرته خمسين ألف دينار، فقال المقتدر: وأيُّ شيء تُغني عني هذه الدنانير؟ وأي مقام تُقوم لي في عظيم ما أستقبلُه؟ ثم قال لها: أما أنا فخارج (لملاقاة الثائرين) كيف كنتُ وعلى ما استطعتُ، ولعلّي أُقتلُ فأستريح، ولكنّ الشأنَ فيمن يبقى بعدي”[8].
قُتل المقتدر الضعيف بسيوف الجيش العباسي وسهامه أولا، وببخل أمه ثانيا، ذلك الخليفة الذي تحكّمت فيه أمه شغب على مدار ربع قرن، أما هي نفسها فلم تسلم من التعذيب الشديد من الخليفة الجديد “القاهر” الذي فعل ذلك ثأرا لنفسه منها، وقد أُهين على يديها، حيث أفشلت هي انقلابه على الخلافة قبل تلك اللحظة بأربع سنوات، سنة 317هـ.
تقول إحدى الجواري عن بعض مشاهد تعذيب السيدة في تلك الأوقات العصيبة: “كانت في بعض دُور الخلافة شجرة، فوالله لقد قُبض على أم المقتدر وعُلّقت في تلك الشجرة بعينها”[9]. وضُربت على جسدها، بل وأُجبرت على حل أوقافها، واستطاعوا الوصول أخيرا إلى كنوزها وذخائرها، ثم وافتها المنية بعد ذلك التعذيب والإهانة بعشرة أيام فقط سنة 321هـ/933هـ، لتنتهي بذلك قصة أخرى من قصص تَحكُّم النساء في السياسة وشؤونها على مدار تاريخنا الطويل.
————————————————————————————–
المصادر
[1] دور الجواري والقهرمانات في دار الخلافة ص117.
[2] مصطفى جواد: سيدات البلاط العباسي ص88.
[3] الصابي: تحفة الوزراء ص308.
[4] ابن الأثير: الكامل في التاريخ.
[5] مسكويه: تجارب الأمم 1/17.
[6] عريب: صلة تاريخ الطبري 11/67.
[7] أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر.
[8] صلة تاريخ الطبري 11/155.