“عربات جدعون”.. أرادت الحسم بغزة فانتهت إلى الاستنزاف

#سواليف

أعلن رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي، إيال #زامير، انتهاء عملية ” #عربات_جدعون ” في قطاع #غزة، مؤكدًا أنها حققت أهدافها الميدانية، في إشارةٍ إلى السيطرة على نحو 75% من مساحة القطاع، إلى جانب #التهجير واسع النطاق، وقتل وإصابة عشرات الآلاف من #الفلسطينيين.

جاء ذلك خلال جولة ميدانية أجراها في بيت حانون، برفقة عدد من قادة الجيش، تخللها تقييم للوضع العملياتي في الجنوب، حيث شدد زامير على أن الجيش “قريب من مفترق طرق بالغ الأهمية”، موضحًا أن القرار النهائي يتوقف على مسار #المفاوضات الجارية، بين خيارَي #الاتفاق أو العودة للتصعيد الموسّع.

لكنّ هذا التصريح لا يمكن قراءته بمعزل عن الشعارات الكبرى التي رافقت انطلاق “عربات جدعون”، والتي وُصفت باعتبارها حملة #الحسم_العسكري، الهادفة إلى استكمال ما فشلت في تحقيقه العمليات السابقة، وتحديدًا خلال فترة قيادة هيئة الأركان السابقة برئاسة هرتسي هليفي. وبذلك، يُعاد فتح النقاش حول ميزان #النجاح و #الفشل لهذه الحملة، ومدى تحقق أهدافها المعلنة والمضمَرة، لا سيما في ظل التحديات التي واجهها الجيش على المستويَين الميداني والسياسي.

الأهداف المعلنة: من الحسم العسكري إلى تفكيك البنية المجتمعية

منذ انطلاق عملية “عربات جدعون”، سعت قيادة الاحتلال الإسرائيلي إلى تقديمها بوصفها المرحلة الحاسمة من الحرب، والرافعة الأهم لتحقيق النصر بعد الإخفاقات المتكررة لهيئة الأركان السابقة. وقد تراوحت الأهداف المعلنة للعملية بين العناوين المباشرة – كتحرير الأسرى – والأهداف الكبرى، كالقضاء على حركة “حماس” وتغيير الواقع في قطاع غزة بشكل جذري.

وبحسب المحلل العسكري الإسرائيلي آفي أشكنازي، فقد تمحور الهدف المركزي للعملية حول خلق ضغط مركّب على حركة “حماس” يدفعها إلى القبول بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين. وقد تم تصميم هذا الضغط عبر عدة اتجاهات متزامنة، تبدأ بإنهاك القوة العسكرية للمقاومة، واستهداف قادتها الكبار، وتدمير البنية التحتية والمالية، مرورًا بالسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض، وصولًا إلى شلّ القدرات الإدارية والخدمية، وتأليب الجمهور الغزي ضد الفصائل.

وفي مقاربة أكثر وضوحًا، قدّمت الباحثة نعومي نيومان – التي شغلت سابقًا مناصب رفيعة في جهاز “الشاباك” ووزارة خارجية الاحتلال – تصورًا متكاملاً للأهداف، مشيرة إلى أن العملية ترمي إلى القضاء التام على “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، بالتوازي مع إرساء وضع جديد في القطاع يقوم على فرض السيطرة العسكرية الإسرائيلية المباشرة، وضمان تحرير الأسرى، مع ترك الباب مواربًا بشأن طبيعة الحكم المدني لاحقًا، وإن كانت حكومة الاحتلال لم تحدد صراحة ترتيبات اليوم التالي.

هذه الرؤية وجدت انعكاسًا في ورقة تقدير موقف صادرة عن “مركز أبحاث الأمن القومي” في تل أبيب، أعدّتها المحامية بنينا شارفيت باروخ وتامي كانر، حيث أشارتا إلى أن الخطة الأصلية لعملية “عربات جدعون” تضمنت تهجير نحو 70% من سكان القطاع جنوبًا، وإنشاء ما يسمى “مناطق إنسانية” تحت إدارة شركات خاصة تعمل تحت إشراف جيش الاحتلال الاسرائيلي.

ورغم الطابع المعلن للأهداف، فإن الغموض في التطبيق وتضارب التصريحات بين المستويين السياسي والعسكري، أثار موجة من القلق داخل مراكز القرار، خصوصًا مع اتساع الفجوة بين الشعارات والقدرات. وقد دعت الورقة ذاتها إلى ضرورة الفصل الصارم بين الأجندة العسكرية والتوجيهات السياسية، في ظل المخاطر القانونية المتزايدة، والتحديات المتولدة عن الانكشاف أمام الرأي العام العالمي، حيث باتت “المعركة تُخاض أيضًا في نظرة العالم”، على حد وصف الوثيقة.

في السياق ذاته، رصدت نيومان جملة من المخاطر الكامنة في الخطة، من أبرزها احتمالية فشل الضغط العسكري في تحقيق هدفه المركزي، وعودة “حماس” إلى تنظيم صفوفها، وتصاعد المقاومة المسلحة، وإعادة تسليح الفصائل، إلى جانب احتمالات حدوث أزمة سياسية أوسع نتيجة رفض المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية، لتكريس احتلال طويل الأمد للقطاع.

وتُظهر القراءة الميدانية أن تنفيذ العملية اعتمد على نموذج متدرج يقوم على مرحلتين أساسيتين. الأولى، تقوم على مبدأ “القضم البطيء” والزحف المتأني على الأرض، بعد تمهيد ناري كثيف عبر الأحزمة النارية والقصف السجادي، وذلك لتقليل الخسائر في صفوف الجنود وتفادي الكمائن القاتلة التي راكمتها المقاومة خلال أشهر الحرب.

أما المرحلة الثانية، فتركزت حول التمركز طويل الأمد في المناطق التي تمت السيطرة عليها، مع تفكيك كل ما يرتبط بالبنية العسكرية والمدنية للمقاومة، ونسف النسيج الحضري والخدمي، كما جرى في رفح، لتحويل الاحتلال الميداني إلى ضغط حياتي شامل.

وبهذا، رُسِمت الاستراتيجية على أساس أن نجاحها لا يُقاس فقط بمدى تقدم الجنود في الميدان، بل أيضًا بمراكمة الأثر التدميري على البيئة الحاضنة للمقاومة، وصولًا إلى الدفع باتجاه الانهيار المجتمعي أو الهجرة الجماعية بفعل غياب أدنى مقومات الحياة.

ويُعوَّل في هذا السيناريو على تحقيق معادلة الربح الصافي: لا خسائر في صفوف الجيش، مقابل ضغوط ساحقة على المقاومة والمجتمع، تفضي إلى تنازلات تفاوضية، إن لم تؤدِ إلى اختراقات عملياتية تُفضي إلى تحرير الأسرى بالقوة أو إسقاط المقاومة من الداخل.

حجارة داوود في المواجهة: استراتيجية المقاومة لكسر “عربات جدعون”

كما في كل محطات المواجهة الكبرى، لم تتعامل المقاومة في قطاع غزة مع عملية “عربات جدعون” بمنطق رد الفعل العفوي، بل اتسم أداؤها منذ اللحظة الأولى بما يمكن وصفه بـ”العقل البارد” والتموضع الواعي في مواجهة التحرك الإسرائيلي الثقيل والمعقد.

فمع انطلاق العملية، ورغم حجم التمهيد الناري الهائل واتساع محاور القتال، فضّلت المقاومة التريث والترقب، مركّزة على دراسة سلوك العدو، وتحليل مساراته، وقراءة خلفياته السياسية والميدانية.

وكان واضحًا أن المقاومة أخذت بعين الاعتبار أن العملية تقودها قيادة عسكرية جديدة، على رأسها رئيس الأركان إيال زامير، وأن هذه القيادة تسعى لتجاوز إخفاقات هيئة الأركان السابقة عبر تبنّي نمط عملياتي أكثر تماسكًا وتخفيًا، يقوم على التضليل والتكتم والحد من تسرب المعلومات. هذا التوجه جاء إدراكًا من الاحتلال لنجاح المقاومة سابقًا في التقاط الإشارات وتفكيك الخطط العسكرية قبل تنفيذها.

أمام هذا الواقع، اعتمدت المقاومة استراتيجية دفاعية مركبة، جمعت بين الصبر الاستراتيجي والرصد الاستخباري والهندسة العملياتية. إذ لم يكن الهدف المباشر إيقاع أكبر عدد من الإصابات منذ اللحظة الأولى، بل ضرب جوهر الفرضيات السياسية التي بُنيت عليها العملية، عبر تعظيم الفشل الميداني، واستنزاف الاحتلال في النقاط التي اعتبرها مكامن قوة.

واحدة من أبرز نقاط التحوّل في أداء المقاومة كانت قدرتها على تجاوز الأحزمة النارية التي أحاطت تقدم جيش الاحتلال، وتمكنها من الإبقاء على عقدها القتالية في مواقعها دون كشف، ما سمح لها بالبقاء خلف خطوط التقدم للجيش الإسرائيلي.

هذه الخطوة النوعية مكّنتها من تحويل نقاط التمركز الإسرائيلي إلى أهداف ثابتة قابلة للاستهداف المباشر، لا سيما مع بقاء الجنود لفترات طويلة في مواقع مكشوفة، وما يرافق ذلك من تراخٍ وتراجع في درجة الحذر.

لقد راهنت المقاومة على أمرين أساسيين: الأول هو تحوّل مواقع تمركز جيش الاحتلال إلى أهداف سهلة نتيجة طول البقاء، والثاني هو أن طول المدة سيُفضي إلى أخطاء سلوكية وتكتيكية من جانب الجنود، يمكن استثمارها في تنفيذ كمائن نوعية وإغارات قاتلة. وهو ما تحقق بالفعل، إذ تحوّلت بعض مناطق الاشتباك إلى مصائد موت حقيقية لقوات الاحتلال، وكشفت حجم التناقض بين الهدف الإسرائيلي في “تقليل الخسائر” والنتائج على الأرض.

ويُضاف إلى ذلك أن المقاومة استثمرت بدقة في نقطة الضعف المركزية لرئيس الأركان الجديد، وهي “هاجس الخسائر البشرية”، والتي بسببها تم اعتماد خيار الزحف البطيء والمتأني. وبفعل هذا المعطى، خططت المقاومة لتنفيذ عملياتها على قاعدة رفع الكلفة البشرية وليس فقط المادية، من خلال تكثيف استخدام العبوات الناسفة، والجهود الهندسية الهجومية، وابتكار وسائل جديدة للإغارة والاستدراج.

لقد أدارت المقاومة مواردها بحكمة بالغة، فكانت كل قذيفة وكل عبوة موجهة نحو هدف محدد، مما ضاعف من تأثيرها ورفع من كلفة التقدم الإسرائيلي. ولم تتوقف عند هذا الحد، بل دشنت بُعدًا إضافيًا في المواجهة، عبر استئناف محاولات أسر جنود من قوات الاحتلال، وهي رسائل استراتيجية تُصيب جوهر الغاية الإسرائيلية من العملية، إذ تقلب المشهد رأسًا على عقب: من جيش يسعى لتحرير أسرى، إلى جيش يخسر مزيدًا من جنوده قتلى أو مأسورين.

بهذه الطريقة، تمكنت المقاومة من ضرب قلب الاستراتيجية الإسرائيلية، عبر إفشال “التقدم الآمن” و”التمركز الطويل”، وتحويلهما إلى عبء ميداني وسياسي. فكل منطقة تقدمت إليها قوات الاحتلال تحوّلت إلى عبء أمني، وكل موقع تمركز تحول إلى مصدر نزيف بشري ومعنوي.

وهكذا، فإن ما تبقّى لحكومة الاحتلال وجيشها من مخرجات “عربات جدعون” لا يتعدى عنوانًا واحدًا: الدمار الشامل. فبينما لم تحقق العملية أهدافها الاستراتيجية، سواء بتحرير الأسرى أو تفكيك المقاومة أو فرض ترتيبات جديدة في غزة، فإنها أعادت إنتاج ما تتقنه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية: التدمير واسع النطاق ونسف البنية الحضرية.

الفشل من جديد: حين تحوّلت “عربات جدعون” إلى عبء

بالعودة إلى الأهداف المُعلنة، يمكن الجزم أن عملية “عربات جدعون” فشلت في تحقيق أي هدف استراتيجي حقيقي، باستثناء ما اعتادت عليه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من استخدام التدمير الشامل كأداة بديلة عن الحسم. فبينما استطاع جيش الاحتلال أن يدفن مزيدًا من أحياء قطاع غزة تحت الركام، ويُجهز على ما تبقى من بنى تحتية عمرانية وخدمية، إلا أنه لم يُحقق أي من الأهداف الجوهرية التي أعلنها قادته في بداية الحملة.

فلم تنجح العملية في تحرير الأسرى، لا عبر العمل العسكري المباشر، ولا من خلال خلق ضغط يدفع المقاومة إلى تقديم تنازلات. بل على العكس، واجه الاحتلال نكسة نوعية حين اضطُر إلى الانسحاب من إحدى المناورات الميدانية تحت تهديد المقاومة بقتل أحد الأسرى الذين اقتربت القوات من مكان احتجازه عن طريق الخطأ. هذا الحادث، وإن لم يُعلن رسميًا بتفاصيله، مثّل مؤشرًا واضحًا على أن يد الاحتلال باتت مقيّدة ميدانيًا بفعل معادلة الأسرى التي ترسّخ حضورها بقوة.

أما على الصعيد التفاوضي، فقد أخفقت العملية – رغم السيطرة الواسعة على الأرض – في فرض أي تنازل جوهري على المقاومة، التي تمسّكت بمواقفها، وأكدت أن أي حل سياسي لن يُبنى على بقاء الاحتلال أو على وقائع أفرزتها “عربات جدعون”، بل على تفكيكها بالكامل. وهو ما أفشل إحدى أهم الغايات الإسرائيلية: فرض صيغة “هدوء مقابل الأسرى” دون أثمان سياسية أو ميدانية.

ولم تكن محاولات “إعادة هندسة” القطاع أكثر حظًا، إذ فشلت الآلية الخاصة بالمساعدات – التي رُوّج لها كأداة لضرب النفوذ المقاوم – وتحولت إلى مصدر جدل وانقسام داخلي وخارجي، مع ترجيحات بإلغائها. كما سقط رهان “الاستثمار في الفوضى”، ومشروع تحويل جماعات صغيرة إلى بدائل محلية تابعة للاحتلال، باستثناء بؤرة محدودة محصّنة بقوة الاحتلال.

وقد لخّص المحلل العسكري لصحيفة “معاريف” هذه الإشكالية بقوله إن “الضغط الذي أرادت “إسرائيل” ممارسته على المقاومة، قد ينقلب ضدها، سواء عبر موجة انتفاض شعبية، أو من خلال تصاعد حرب العصابات ضد الجيش الإسرائيلي، تمامًا كما حدث في تجارب سابقة في لبنان والعراق وأفغانستان”.

وبينما يدّعي جيش الاحتلال الإسرائيلي التزامه بتعليمات المستوى السياسي، فإنه يواجه، وفق اعترافات قادته، معضلة وجودية تتعلق بالإخفاق في استعادة الأسرى، وهو ما وصفه بعضهم بأنه “وصمة عار تاريخية”. وقد ربط محللون عسكريون كثيرون بين مآلات الحملة ومسؤولية رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عن رسم “فصل النهاية” للحرب، وسط تخوفات من أن تستمر في استنزاف كل الموارد دون أفق للحسم.

وتعكس تحذيرات الجنرال الاحتياطي يتسحاق بريك حجم الأزمة التي خلفتها “عربات جدعون” داخل بنية الجيش نفسه، حيث أشار إلى أن الجيش يعيش “أسوأ حالاته منذ اندلاع الحرب”، مؤكدًا أن المؤسسة العسكرية “فقدت السيطرة” خلال الحملة، وتكبدت خسائر بشرية فادحة دون تحقيق أهداف تذكر، وعلى رأسها تحرير المختطفين.

كما حذّر بريك من التدهور الكبير في القدرات القتالية للجيش، وتآكل جاهزيته على الجبهات الأخرى، وسط مؤشرات متزايدة على نيّة الانسحاب من مناطق تعتبرها المؤسسة الأمنية “خطًا أحمر” كمنطقة موراج جنوب القطاع. وأشار إلى تحولٍ ملحوظ في خطاب المحللين الإسرائيليين، الذين بدأوا بالتخلي عن نغمة “الإنجازات” لصالح الاعتراف بالإخفاق والتخبط.

ختامًا، وعلى ضوء ما سبق، تُظهر عملية “عربات جدعون” نفسها بوصفها نموذجًا صارخًا لفشل عسكري تغلّف بلغة الانتصار الزائف. فإسرائيل، التي روّجت للعملية كخطة الحسم وإعادة صياغة مستقبل غزة، خرجت منها بأعلى كلفة بشرية منذ بدء الحرب، وبتآكل في قدرتها على فرض المعادلات، وبتدمير مادي لا يُترجم إلى مكاسب سياسية.

لقد نجحت المقاومة في تحويل نقاط القوة المزعومة إلى مكامن ضعف استراتيجية، وفي إفشال الرهانات على كسر إرادة غزة أو تفكيك بنيتها المقاومة، مما يجعل من “عربات جدعون” فصلًا آخر في سلسلة إخفاقات الاحتلال في اختبار غزة، وربما بوابة لتعميق أزماته السياسية والعسكرية داخليًا، في ما قد يُمهّد لحسابات جديدة، تتجاوز منطق القوة، وتُعيد الاعتبار لحقيقة أن غزة لا تُكسر.

المصدر
قدس الاخبارية
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى