عبد الله التل بطل معركة القدس

عبد الله التل بطل معركة القدس
موسى العدوان

بمناسبة الإعلان عن صفقة القرن من قبل الرئيس الأمريكي في أواخر الشهر الماضي، والتي جعلت من القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، نستذكر في هذا اليوم تضحيات الجيش العربية في الدفاع عن القدس في حرب عام 1948. وأما ما جرى في الدفاع عن القدس وفي تل الذخيرة في حرب 1967 فله قصة أخرى.

لقد كُلف الرائد ( المقدم فيما بعد ) عبد الله التل قائد الكتيبة السادسة بالدفاع عن القدس في حرب عام 1948. وعند تكليفه بهذا الواجب المقدس خاطب أفراد كتيبته التي كانت تعسكر في منطقة أريحا بالأمر اليومي التالي : ” أيها الضباط وضباط الصف والجنود في الكتيبة السادسة. إن مصير العالم العربي يتوقف على ثباتكم وشجاعتكم وصبركم، إنكم ولا شك ستحافظون على سمعة الجندي العربي الذي إذا هاجم لا يهاب الموت، وإذا دافع لا يتراجع حتى النهاية. لقد دنت الساعة التي تمكننا من الانتقام لدير ياسين، التي انتُهكت أعراض بها. هيا لتبييض أعراض العرب بالدماء، والله ينصركم “. ثم تحركت كتيبته إلى القدس.

وبعد الاتفاق مع جيش الإنقاذ، والجهاد المقدس تم توحيد القيادة العسكرية بيد عبد الله التل. فجرت معارك عديدة في مواقع مختلفة داخل القدس وجرى محاصرة الحي اليهودي واستسلامه، ولا مجال لتفصيل تلك المعارك في هذه العجالة. عقدت الهدنة بعد القتال بين الطرفين، ولكن اليهود قاموا باختراقها عدة مرات، خاصة بعد قصف اليهود للقدس القديمة بالقنابل يوم 12 / 9 / 1948 وذهب ضحيتها عدد كبير من المدنيين.

أصبح الوضع في نظر عبد الله التل بالقدس لا يطاق، لاسيما وأنه أمضى أكثر من شهر دون أن يتسلم ردا على تقريره الذي طلب به زيادة قواته في القدس. وعلى أمل تلبية طلبه فقد بعث عبد الله باستقالته متعللا بالمرض. وبعد خروجه من المستشفى استدعاه الملك عبد الله مع وزير الدفاع وقال : ” هذا سيفنا وسندنا، والله لا يجوز أن يخلينا “. فرد عليه التل قائلا : ” أمركم مولاي، ولكني آمل أن يستخدم هذا السيف “. فرد جلالته : ” عيّن خير، توكل على الله وخليك معنا “.

انحازت بريطانيا بكل وضوح إلى الجانب الإسرائيلي وأبلغت الملك عبد الله بالرسالة التالية : ” إن هجوما شاملا يقوم به الجيش العربي على القدس سيخلق وضعا تنتج عنه أعظم المشاكل لنا ولعلاقتنا مع الأردن “. ثم قاموا بسحب الضباط البريطانيين الذين يتولون قيادة وحدات الجيش العربي، في الوقت الذي لا يوجد من يحل محلهم. ثم عمدت إلى إيقاف جميع إمدادات السلاح والعتاد إلى الأردن، وأوقفت تقديم المساعدة المالية للجيش، مما ألحق ضررا كبيرا في الأردن.

حينما استدعي الحاكم العسكري في القدس حلمي باشا إلى مصر، وكلفته الجامعة العربية بتشكيل الحكومة الفلسطينية، أصبحت وظيفة الحاكم العسكري شاغرة. فصدرت الإرادة الملكية بتعيين عبد الله التل حاكما عسكريا للقدس خلفا لحلمي باشا. ولكن عبد الله رفض هذا المنصب الكبير، واشترط لقبوله شروطا قاسية، خاصة وأنه أدرك أن المقصود بهذا التعيين إبعاده عن الجيش نهائيا. فكتب التل إلى رئيس الأركان كلوب شرح بها الموقف العسكري، وماذا قدم خلال قيادته العسكرية ختمها بقوله :

” إنني كحاكم عسكري للقدس أعتبر، أن مسؤوليتي هي نفس مسؤولية الحاكم العسكري البريطاني في برلين. فإذا لم تخول لي نفس الصلاحية التي يتمتع بها ذلك الحاكم، فإنني لا أستطيع تحمل المسؤولية الجسيمة أمام الله والأمة والملك. وإذا تعذر تلبية طلبي فإنني أرجو إعفائي من الخدمة، ولن أعجز عن خدمة الوطن والملك بما يرتاح إليه ضميري في غير هذا المجال “.

على ضوء ذلك طلب الملك عبد الله إحضار التل اليه مع رئيس الوزراء ووزير الدفاع وخاطبه قائلا : ” أنت تعود للجيش إذا حاول اليهود الاعتداء على القدس، ولا أقبل لك عذرا في الاختلاف مع قائد الجيش والضباط الإنجليز ضيوفنا “. وهكذا نفذ التل أمر جلالته وقبل المنصب الذي يعادل رتبة عميد، ولكن كلوب مانع في هذه الترقية الاستثنائية على أن لا يحمل الرتبة العسكرية، بل يكتفي بتسلم راتبها.

عاد عبد الله التل إلى القدس مساء يوم الجمعة 1 / 10 / 1948 وأذاع على الناس البيان التالي :

” يا أهل القدس الكرام :
لقد غبت عنكم ولكن من أجلكم. والآن أعود باسم الله والملك والشعب حاكما عسكريا للقدس الشريف. وإني لا أخاطبكم بلغة الحكام، بل كصديق عرف جراحكم وسيحاول ما استطاع تضميدها.

أيها القوم :
إني لا أتنبأ عن المستقبل ولا أقرأ الغيب، ولكني واثق من أنكم أقوياء ستعيدون بناء فلسطين وسنعاونكم على بنائها، وأنتم طليعة المجاهدين الذين ثبتوا، فأوصيكم بالصبر ثم الصبر. أما أنا فمنكم وإليكم ، فامهلوني قليلا لأعيد تشكيل الجهاز الإداري الذي سيوفر لكم لوازمكم. وإني أعدكم بمحاربة الاستغلال وعَبَدة النقود كما أحارب اليهود، والله الموفق على كل حال “.

السؤال الذي يطرح نفسه في نهاية هذا المقال هو : لو كتب لعبد الله التل أن يعود اليوم للحياة، ويرى ماذا حدث للقدس التي قاتل وضحى من أجلها، ويعرف بأنها أصبحت عاصمة موحدة للعدو الإسرائيلي، فكيف يكون شعوره، وماذا يمكن أن يقول عن حال الأمة العربية ؟ أعتقد أنه سيسرع عائدا إلى قبره، مفضلا باطن الأرض عن ظهرها . . ! رحم الله الوطني المقاتل عبد الله التل، وأسكنه فسيح جناته.

التاريخ : 15 / 2 / 2020

المرجع : كتاب عبد الله التل/ الكتور أحمد يوسف التل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى