طنبر الكاز / حسين محمود حشكي

طنبر الكاز
حسين محمود حشكي

يحلم الفقير ولاتتحقق أحلامه فيحقق الغني أحلامه دون أن يحلم
فلا الفقير استمتع بتحقيق أحلامه لأنها لم تتحقق ولا الغني استمتع بتحقيق أحلامه لأنه أصلاً لم يحلم .
( فايز ) بائع الكاز يجوب الحواري والزقاق بصرخته التي لاتخطئها الأذن ( حاااا. حاااا) مع تنغيمة بصوت جهوري يشق أجواء الحارة فيصل لكل الأذان ( كااااااز كااااز) ولسعة من سوط يحمله بيمناه ينهال به على ظهر حصانه الذي ورثه عن أبيه ، وتنسدل على أطراف ( السرج ) حبلين ضخمين يتعلق بهما عمودين خشبيين يتصلان بعربة على عجلتين ، تحمل فوقهما تنكاً ضخماً يملأه بالكاز فكان اسمه كما يعرفه أهل الحي جميعاً ( طنبر الكاز ) ليوزعه على الأحياء الصغيرة بين الأزقة والحواري حتى إذا مااستوقفته امرأةٌ من الحي تحمل بيدها ( قلن ) تسمع صوته يصرخ بالحصان : ( هييييش ) وهي الكلمة المضادة ل ( حاااا) حيث يمتثل الحصان ل( هيييش) تنطلق من فم صاحبه فيتوقف كي يملأ الوعاء ، ويأخذ ثمنه ، ثم ( حاااا) من جديد فينطلق وصوت حوافره يملأ الحارة …
فايز أيها الصوت الذي يخشاه كل أفراد الحاره صغيرها وكبيرها .. حتى حصانك لايجرؤ على مخالفة صوتك المجلجل في الآفاق ..
فايز أيها الغامض الذي نخشى غموضه دون أن نعرف أسراره ..
في آخر الزقاق ترقد في غرفة بحوش صغير تقاسمته مع حصانك الذي تربطه بك علاقة منذ الصغر ، تربيت معه مذ كنت طفلاً تحبو ،، شربت حبه مع (باطية) العدس التي كنت تشربها بديلاً عن الحليب الذي كان ترفاً لست تعرفه
وحرصت على حصانك بقدر ماكان أبوك يوصيك به ، حصانك الذي إن سقط فسوف تسقط معه ، وإن سقطت أنت فلاعيش له من بعدك …
صنوان لا يفترقان على مرّ الزمان
فايز يجوب الآفاق على ( طنبر ) الكاز الذي لاغنى عنه في أيام البرد لتملأ به لمبات الكاز حين يدلهمّ الليل وتنقطع الكهرباء – إن وجدت – و( صوبات الكاز ) التي تسمع اصطكاك فتيلها وحديدها الصدئ في أيام الزمهرير لاتكاد تقوى على تدفئة جوانبها فكيف تدفئ من يلتفون حولها ،، ولكن لابأس ،،، فوجودها يبقى مؤنساً فنصف أحاسيسنا تأتينا مما نقنع به أنفسنا لأن ( المعجزات تحدث لمن يؤمن بها ) وهكذا كان الدفء يدخل أضلاعنا كلما أمعنا ايماناً في أن هذا الشيء المرتجف الذي نلتف حوله قادر على تدفئتنا …
صغيرة هي أحلامنا وأغلبها لايكاد يتحقق …
ضيقة مراقدنا حين تلتف الأجساد وتقترب من بعضها كي تمنحها دفئا إضافيا فيمضي الشتاء بقرّه وقسوته ..
فايز ينادي بأغنيته التي نعرفها ، يبيع الكاز على طنبره ونحن القابعون وراء الأبواب نبحث عن دفء لضلوع الصغار، وخارج الأبواب على طرقات الحارة هناك وجوه باليةٌ كالحة لاتكاد تستبين لها ملامح تتجول في دروب الحارة من كل أطرافها..
رجال حمر وصفر وجلجلة ورعب ينتشر في كل مكان ، ونحن القابعون خلف الأبواب المهترئة نرجو السلامة وندعو الله أن يحفظ من نحب.
لا نعرف مالذي يحدث ولا نجرؤ حتى السؤال ، نراقب من فتحات صغيرة من الشبابيك ونرى تدافع الرجال بلغات ولهجات اختلطت علينا ، لانعرف من أين أقبلت دون إذن أو اعتذار ، وأصوات أغرب ،. يحطمون مايجدوه في طريقهم، يقتلون من يتحرك ، شيخاً أو طفلاً ، قطة او عصفوراً، ومازلنا المذعورين من كل شيء لانجرؤ حتى على السؤال عما حدث ويحدث ،
يظهر الصبح و تهدأ الاصوات ، نخرج لنلتقي في الشوارع المبعثرة ، عيوننا تتساءل مالذي جرى ؟ مالذي يجري ؟ قالوا كانوا يبحثون عن فايز ، دخلوا عليه غرفته في الليل ، قتلوا حصانه ، سحبوا طنبره على شاحناتهم الضخمة وعصبوا عينيه واقتادوه لمكان مجهول … وراح فايز في غياهب النسيان ،، ومرت الأيام والسنين وظهرت كازية على طرف الشارع وانشغل الناس ولم يعودوا يذكرون فايز إلا لماما …
ظهر فايز بعد مدة … فقد رآه الناس يبيع السجائر ( فرط ) في وسط المدينة بعد أن فقد حصانه واختفى صوته على أرصفة الذل والحرمان ،،،

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى