#ضرورات لا تبيح #المحظورات
د. #حفظي_اشتية
منذ العدوان الأخير اللاحق لسلسلة من أشباهه عبر ما يزيد عن قرن من الزمان، وغربانُ الغرب تحط في ديارنا وتطير، تسعى في الخراب، وتقود نحو السراب، فتتكاثر المؤتمرات، وتتراسل اللقاءات، وتتناثر البيانات والتصريحات، والذي يقوى على متابعتها وتصمد أعصابه في الاستماع إليها، سيجد أن كلمة ” ضرورة ” سيّالة على الألسنة، تتصدر المشهد، وتكاد تكون ضرورة ملازمة لكل الأحاديث المتداولة، وهي تتكرر إلى حد أنها قد تستعصي على الحصر.
وسوف نجتزئ منها للتدليل عليها. من ذلك :
ــ ضرورة إدانة الذين سُلبت أرضهم وشرّد شعبهم، وطُمست حقوقهم إن ثاروا يوما على الضيم، وحاولوا إذاقة عدوهم قطرة من بحر ما عانوه منه وتجرعوه جيلا بعد جيل، فيُنسى الفعل الذي تعرضوا له، ويضخّم ويجرّم رد الفعل المشروع في عرف أهل الأرض وشرائع رب السماء.
ــ ضرورة تحرير 134 أسيراً للمعتدي من ذوي الدماء العلية النقية، والجينات النادرة السنيّة، حتى لو أدى ذلك إلى قتل 134 ألفاً من الأبرياء المظلومين، وتشريد وأسر وتجويع وتعطيش وحصار شعب كامل، فشتان ما بين دم المعتدي ودماء المعتدى عليهم، ومِن فَمك أدينك : ألم يقل الشاعر العربي :
وكم رجلٍ يُعَدُّ بألفِ رجلٍ وكم ألفٍ تمرُّ بلا عِدادِ
ــ ضرورة تحقيق الأمن للقوي المعتدي الغاصب النووي ليسلم من الطرف الضعيف المعتدى عليه الأعزل الذي احتلت أرضه، وتم تشريده، وغُصبت حقوقه، وتعرض عبر قرن من الزمان إلى كل صنوف القتل والسجن والإرهاب والتهجير والتدمير والذل والهوان.
ــ ضرورة تضمين كل عرض سخي!! أو مقترح للحل مجموعة من الأفخاخ والتعابير الهلامية، والتراكيب حمّالة الأوجه للتحايل والالتفاف على المطالب الشرعية والحقائق الناصعة، وتلك سنّتهم الرتيبة منذ ابتلينا باستعمارهم ومكائدهم.
ــ ضرورة فتح المعابر مع تقاذف التهم والتلاوم : العدو يقول لا علاقة لي بإغلاقها، والشقيق يقول : لست رافضا لفتحها لكني غير قادر، والمفاتيح ضائعة، والمساعدات مكدّسة، والجائعون المرضى ينتظرون، لكن لا سبيل إلى إدخالها للشعب المظلوم الصابر الجائع المريض الظامئ المشرّد المحاصر.
ــ ضرورة إتاحة التعبير عن مؤازرة المظلومين ولو بالتظاهر، على ألّا يتم ذلك في مواطن العرب خوفا من الانفلات أو الاندساس….. والاكتفاء بمراقبة شعوب أقاصي العالم وطلاب جامعات ما وراء البحار ليقوموا بالمهمة النبيلة!!
ــ ضرورة الانخراط في مدارس الغرب لتعلُّم الديمقراطية والإنسانية والحقوق الشرعية المرعية، مع تذكر أن كل هذه المعاني والقيم لا تنطبق على الإنسان العربي ولا يستحقها، فهي موجهة إلى بني الإنسان، ونحن ــ كما يصفوننا ــ لم نرقَ بعد إلى أدنى المرتبة الإنسانية!!
ــ ضرورة منع التطرف في العالم العربي والإسلامي، وتغيير مناهجه، وإعادة برمجة عقول أبنائه بما يعارض الدين والتاريخ والجغرافيا للقبول بالمعتدي. والإقرار بحقه في ما غصبه، وإطلاق كامل الحرية له بإشهار تطرفه الديني، واستناده إلى خرافات تاريخية دينية تحلل الاعتداء على العرب، والاستيلاء على أرضهم وذبحهم وتشريدهم واستحياء بعضهم عبيدا وخدما للمعتدي.
ــ ضرورة إنهاء الانقسام المصنوع بين الإخوة في الوطن المحتل، وعقد اللقاءات تلو اللقاءات في العواصم العربية وحتى تحت أستار الكعبة دون جدوى، ثم الهجرة إلى روسيا بحثا عن المصالحة دون أن نجدها، ليشتد النداء أخيرا : تفاوضوا واطلبوا الاتفاق ولو في الصين!! وعلى ضوء التجارب المريرة السابقة لا يُتوقع أن نحظى إلا بخفَّيْ حُنين….. فكيف نوفق الضدين، ونوحّد المنهجين المتناقضين، ونجمع الثريا وسهيلا وهما في اتجاهين متعاكسين ؟:
هي شاميّة إذا ما استقلّتْ وهو إذا ما استقلّ يماني!!
ولو كانت نية الإصلاح قد توافرت لما احتجنا إلى هذه السياحة العجيبة، والتيه الضالّ المضلّ، ورحلات ابن بطوطة المستحدثة للبحث عن اتفاق مكانه الصادق هو القلب الصافي المفقود، والعقل الواعي المسلوب.
ــ ضرورة إخلاء المواطنين المسالمين من الشمال إلى الوسط ثم إلى الجنوب مع استمرار تقتيلهم حيثما كانوا مقيمين أو راحلين أو نازحين أو صامدين…… وأخيرا ضرورة اجتياح الجنوب مع التحلي بفضيلة الإنصات إلى النصائح اللزجة المقيتة بالحفاظ على المدنيين وتقليل منسوب القتل فيهم، فحياتهم غالية وأمنهم مطلوب!!!
ــ ضرورة منع التهجير، وعلى الأبرياء العزل الصمود في أرضهم وسط كل هذه الأهوال والظروف التي تئن تحتها رواسي الجبال :
ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له إياكَ إياكَ أن تبتلّ بالماء!!
ــ ضرورة بعث وهمِ حلّ الدولتين من مرقده للاقتيات عليه بضعة عقود أخرى من الزمن، ريثما يتم الاستيلاء على باقي الأرض، واصطياد فرصة جديدة مفتعلة لتشريد باقي الشعب….
إنها ضرورات لا تبيح أيّ محظورات مهما صغرت، فكيف إذا كانت تلك المحظورات بحجم الإذعان والتنازل عن العقيدة والهوية والأرض والمقدسات؟؟!!
ليست هناك إلا ضرورة واحدة تبيح كل محظور :
إنها ضرورة أن يلتقي العرب والمسلمون المستهدفون على أدنى أساسيات الوحدة الغريزية وهي الدفاع عن النفس والحفاظ على النوع أمام هجمة الإبادة وسطوة الفتك :
يتناسون خلافاتهم الدينية التاريخية التي ضخّمها المستعمر المستبد ليضبعهم ويقتادهم، لقد آن الأوان أن يستعيدوا وعيهم، ويتجاوزوا تفرقهم على تباين مذاهبهم وطوائفهم ومآربهم ومشاربهم ليلتقوا على هدف نبيل واحد هو الحفاظ على ما تبقى من عقيدتهم وهويتهم وتاريخهم وإرثهم الأصيل، ولأجل ذلك يجب السعي الحثيث الجادّ الحتمي الحقيقي نحو استرداد الإرادة، وتحرير الفكر من وهم الانقياد للغرب، وتوحيد الجهود، وتوجيه الموارد للعلم وصناعة كل أسباب القوة.
وهذه ليست تهاويم تاريخية ولا خطب إنشائية ولا أطياف أوهام ولا أضغاث أحلام…. إنها حقيقة لاذعة مرّة مروعة، إن لم نستوعبها سنتحول حتما أجمعين ( حكماء عقلاء معتدلين، ومقاومين شرفاء ” متطرفين ” ) إلى هنود حمر مشردين لا نجد غابات نستظلها، بل نهيم في صحراء لا ظل فيها، أو نظل مسربلين بالمذلة والمهانة كلٌّ منا ينتظر دوره ذبحا على أيدي غرب ماكر غادر لا يؤتمن، وعدو ظالم غاشم لا يرحم.