ضربُ المكانسِ من يومياتِ معلمٍ في الجَنوب

ضربُ المكانسِ من يومياتِ معلمٍ في الجَنوب
أ.د . خليل الرفوع

هو كتاب موسوم بـ ” سمر الباديةِ ضربُ المكانسِ من يومياتِ معلمٍ في البادية” لمؤلفه عمر العناني ، طبع طبعتين الأولى سنة 1972م ، والثانية سنة 2000م، والكتاب مواقفُ واقعيةٌ لصاحبه الذي قدم من الخليل سنة 1928م وعمره ثمانية عشر عامًا ليكون معلمًا في المزار الجنوبي سنةً ثم سنةً أخرى في بصيرا ثم في وادي موسى فالشوبك ، والحقُّ أن هذه الأماكن ليست من البادية حينئذٍ وإن حسبها المؤلف كذلك ، ولعلَّ اختلاطَه ببعض القبائل البدوية القريبة من وادي موسى وزواجَه من إحدى فتياتها أربعة أشهر جعله يدخل أهل الريف في البادية والفلاحين في البدو ولكلٍّ عاداتُه وتقاليده وأعرافه حتى يومنا هذا .
ضربُ المكانسِ عنوانٌ التقطه المؤلفُ من قصة واقعية حدثت في مدرسة بصيرا سنة 1929م إذ كان يسكن في الغرفة (السقيفة) التي يدرسُ فيها طلابَه ، وفي يوم باردٍ عاصف استقبلَ قائدَ المنطقة الباشا الإنجليزي (هورسفيلدو) بطلب من المختار مطلق السعودي لعدم وجود مكان آخر ينام فيه الباشا مع مرافقيه ؛ ولأن بصيرا آنذاك لا يوجد فيها إلا ستة بيوت خشبية حسب ما ذكره المؤلف ، وأثناء تجهيز الغرفة للضيوف للقيام بواجب الضيافة رفض الباشا أن يشربَ من الشاي الذي صنعه المؤلف بحجة أنه لا يشربُ من شاي العرب ولا يأكل من طعامهم ، ثم اعتدى على المؤلف بعصا كان يحملها فما كان من العناني إلا أن قام بضربه ضربا موجعًا بعصا مكنسة كان ينظف الغرفة بها لا يبالي أين تقع الضربة على وجهه أم على رأسه أم على قفاه حتى سقط أرضا ، وأجبره على الخضوع لأحكام (المعَزِّب) ما دام يريد المبيت عنده وقد حصل بعد ذلك أن أُجْبِرَ القائدُ الإنجليزيُ على شراء الطعام والشراب بأضعاف الثمن لأنه لم يَعُدْ ضيْفًا.
الكتابُ مجموعة متلاحقةٌ من المواقفِ التي مرَّ بها عمر العناني تكشفُ عن إخلاصه في التعليم ، وعن تحمله مع أبناء المنطقة قسوة البيئة وجفاف الحياة ، فقد كان يتنقل بين تلك المناطق وداخلها على حصان اسمه ” هَجَّام” وفي ثنايا تلك المواقف تُوثَّقُ بعضٌ من أسماء شيوخ تلك المناطق وأصول عشائرها وطبيعتها وجغرافيتها وتاريخها في حِقْبَةِ إمارة شرقِ الأردن ، كما تكشف عن كثير من العادات الاجتماعية والنماذج الإنسانية التي طُبِعَت بالكرم والقِرى ونجدةِ الملهوف ، فقد كانت إلزاميةُ التعليم فرضًا يُلْزِمُ وليَّ الأمرِ إن رفضه بدفعِ غرامة وإن أصرَّ فيسجن ، ومن الأمور التي يكشفها استقلاليةُ القضاءِ وعدمُ خضوع القضاة لتدخلات كبار القوم ، وإيواءُ الشيوخ للمعلم إن لحقه ضيمٌ كما آوى الشيخ محمد منيزل القطاونه المؤلفَ في بيته وحماه من ظلمٍ شديد كاد يودي بحياته ، وكما فعل الشيخ سالم الرفوع باستقبال مفتش التربية القادم من عمان في منزله أياما ، وكما وقفَ هارون ابن الشيخ موسى الطويسي مع المؤلف في كل مراحل حياته في وادي موسى فكان مستشارَه الأمينَ وصديقه الوفيَّ في وجه مَنْ حاولَ قتله، وهناك موقفٌ يكشف عن كره الطلبة للإنجليز وحبهم للعلم فحينما أساءَ الضابط (هورسفيلدو) لعمر العناني تجمع طلاب مدرسة بصيرا يقودهم بشير محمد الرفوع وأخذوا يلقون الحجارة عليه حتى أخرجوه غصبًا من مدرستهم ، وهم أنفسهم الذين حموا أستاذهم حينما خبطَ حصانُه شيخًا كبيرا كاد يزهق روحَه . ومن المفارقات أن شيخا من أصول أفغانية قد تنسَّكَ في مقام هارون عليه السلام قريبا من وادي موسى قد لقيه عمر العناني وكان لذلك الشيخ – سعيد الأفغاني من بلاد أفغانستان – في المكان نفسه أربعونَ عاما قد تزوج امرأةً أرمنيةً قد لجأت إلى المنطقة بعد هجرةِ الأرمن من بلدهم وتشتتهم وكانت الأرمنيةَ الوحيدةَ في المنطقة ، وقد دار بينها وبين المؤلف حواراتٌ تشفُّ عن وعي سياسي تاريخي ، وفي الكتاب وصف دقيق للبترا وتعريف بمواقعها وتاريخها وجغرافيتها . لقد كان أهلُ المنطقة دائمي السفر إلى فلسطينَ ولكنَّ الطريقَ بعد وادي عربة باتجاه الخليل لم تكنْ آمنة ؛ فقد كثر فيها قطاعُ الطرق وقتلوا من تجار بصيرا أعدادا كثيرةً كان المؤلفُ شاهدًا على قتلِ اثنين منهم في إحدى السفرات ، وكان كثيرٌ من الناس يؤمنُ بالسحر والشعوذة والدجل وخاصة في أمور الزواج والطلاق .
ضربُ المكانسِ كتابٌ يضيءُ زوايا معتمةً لا نكادُ نعرفُ عنها شيئًا إلا من خلال الروايات الشفوية المتوارثة كان المؤلفُ محورَها وبطلها بيد أن كثيرا من الأحداث تنبئ عن مجتمع أصيل كريم لا يستسلم للباطل ولا يرضى عن الحق بديلا ، والكتابُ يسرد قصصا وحكايا قد رآها باطلا في عنفوان شبابه وقد يراها غيرُه حقا مبينا ، وفيه من النقد السياسي والسخرية الاجتماعية المباشرة ما يجعل الكتابَ وثيقة تاريخية واجتماعية وسياسية واقتصادية وتعليمية لمرحلة تأسيس الدولة الأردنية في بدايات الربع الثاني من القرن العشرين ، لقد كُتِبَتْ تلك الأحداثُ بأسلوب بسيط عفوي ولغة سلسة كاشفةً بحواراتها عما كانَ يفكر فيه المجتمع والمتعلمون وهناك أشعار شعبية وألفاظ لا زالت مستخدمة ، لقد ألِّف الكتابُ بعد أربعينَ سنة من وقوع أحداثه اعتمادا على الذاكرة دون تسجيلها مباشرة أو تدوينها ولعل هذا ما يجعلنا نتساءلُ عن الدافع لتأليف الكتاب ؛ وفي رأيي أن رغبة المؤلف في تسجيل جزء من حياته كما هو كان وراءَ ذلك وليس تأريخًا للمجتمع وآية ذلك أنه يخرجُ منتصرا في كل المواقف حتى لو كان بعضُهَا مخجلا له ، ولم يراعِ مسؤوليةَ أن يكون المرءُ معلما في بيئات تبحث عن أساسيات التعليم وركائزه وتكرِّمُ كلَّ من علَّمَ أبناءَهم حرفًا واحدًا، ولو دوَّنَ الأحداثَ لحظة وقوعها لجاءنا خيرٌ كثير ، فالتدوين اعتمادا على الذاكرة يختلف عن النقل المباشر ، ينضاف إلى ذلك أهمية اللغة في التضخيم والمبالغة ، وأعلم أن الكتابَ ليس نثرا أدبيا خالِصًا لكنه تسجيلٌ لسنواتٍ ثلاثٍ أو أربعٍ لحياةِ بعضٍ من أجدادنا كانوا يعيشون ضنكَ الحياة وقسوةَ الطبيعة وغيابَ العدل على هوامشِ السياسةِ والتعليم والاقتصاد ، لكنهم بَقَوا في الأرض وتحت السماء ثابتين بجوعهم وفقرهم وصلابتهم يحترمون العلم وأهله حتى كان أحفادُهم وبنو أحفادِهم من أكثر الناس إقبالا على العلم ، ولأن الحالَ كذلك فإن بعضًا من الأحداث التي رُويت بلا تفاصيلَ من وجهةِ رأي صاحبها لا يمكنُ الحكمُ عليها كما رُوِيَتْ ؛ لأننا بعد تسعينَ سنة منها لا نملك إلا قراءَةَ الكتاب على الرغم مما فيه من مبالغة وأحكام ، فمن كان في الحدث نفسه لا يمكن أن يتساوى مَعَ مَنْ يشاهدُه من خلال اللغة بتصويرها وإيجازها وإطنابها وتحكم المؤلف بتوجيهها وهو البطلُ والكاتبُ والذاكرةُ أقصدُ الذاكرةَ التي تنسى كثيرا ولا يُطْبَعُ فيها إلا مغامراتُ فتى احترفَ مهنةَ التعليم وأخلصَ فيها لكنَّ أثرَه في تعليم المجتمع وتثقيفه صِفرٌ ، كان الكاتبُ البطلُ الساردُ مغامرًا في تحقيق رغباتِه ومآرِبِه في بيئات آمنتْ بالمعلم أنموذجًا للدِّيْنِ والحقِّ حتى أسْمَوْهُ خطيبًا ، لكنها لم تكن جاهلةً أخلاقًا وأعْرافًا ورجولةً ، ويبقى الكتابُ ممتعًا بلغته السردية الوصفية المباشرة ؛ لهذا كلِّهِ يستحقُ القراءةَ والتأملَ .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى