صورة من البطولة ـ الهجوم على تلة البرج

صورة من البطولة ـ الهجوم على تلة البرج
موسى العدوان

عندما أقوم بنشر بطولات فردية لجنود وضباط الجيش العربي الأردني في الحروب الماضية، فإنني لا أحاول إجترار التاريخ لملء وقت الفراغ، بل أقصد من ذلك إيفاء المضحّون من أجل الوطن بعض حقهم، بعد أن نسيهم المترفون وتنكر لهم الحاقدون هذه الأيام. وكذلك أحاول بث الروح الوطنية والتضحية في نفسيات أبناء الجيل الحالي، الذي يجري تجهيله وتغييبه عن تاريخ مشرّف، لأبطال وطنيين سبقوهم إلى المجد والخلود.

من بين تلك البطولات، ما حدث في معركة البرج على أرض فلسطين الحبيبة، خلال حرب عام 1948. ففي هذه العجالة لن أتحدث عن تلك المعركة بكامل تفاصيلها لضيق المقام، بل سأتحدث عن جانب منها يجسّد البطولة الفردية لبعض رجال الجيش العربي، الذين نفخر بهم ونترحم عليهم.

مع فجر يوم 15 تموز 1948، شنت القوات اليهودية هجوما واسع النطاق، بقوة لا تقل عن ألف مقاتل، على مراكز الكتيبة الثانية في باب الواد قرب القدس، بقصد احتلال قرية يالو والهضاب المجاورة لها. وتمكنت بعد قتال عنيف من الوصول إلى الاستحكامات الأمامية للكتيبة، ثم بدأت بحفر الخنادق قريبا من القرية. إضافة لذلك قامت قيادة القوات اليهودية، بتجهيز لواء مدرع للهجوم على موقعي بيرماعين وقرية البرج.

مقالات ذات صلة

في صباح 16 تموز وردت معلومات من قائد اللواء إلى قائد الفرقة، تفيد بأن هناك هياجا من قبل ضباط وجنود الكتيبة الثانية في اللطرون، وأنهم تمردوا على قائد الكتيبة البريطاني ( الرائد لوكت ) مطالبينه بقيامهم بشن هجوم على القوات اليهودية. فأرسل قائد الكتيبة الرائد عبد الله التل، ليشرح للجنود خطورة ترك موقع اللطرون الاستراتيجي، والذي سيحتله اليهود بمجرد إخلائه، إلا أنه لم يفلح في تهدئة جنود الكتيبة.

واستجابة لرغبة ضباط وجنود الكتيبة، شكل قائد الكتيبة ( الرائد لوكت ) قوة الواجب للهجوم على العدو تتألف من القوات التالية : سريتي مشاة، سرية مدرعات، سرية مدفعية، فصيل مدافع 6 رطل ضد الدروع، 4 مدافع هاون 3 انش، و4 رشاشات متوسطة فكرز. قام قائد الكتيبة بالاستطلاع ووضع خطة الهجوم على تلة البرج المحتلة من قبل العدو، والتي تقع على ربوة عالية، تشرف على كامل المنطقة المحيطة. قرر القائد في خطته أن يكون خط البدء طريق بيت سيرا ـ اللطرون، وأن تكون الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر ساعة الصفر. كان مفهوم الخطة يقضي بأن تتقدم سرية المدرعات في طليعة قوة الهجوم، تتبعها سريتي المشاة تحت ستار من نيران المدفعية وبقية أسلحة الإسناد.

شرعت القوة بالهجوم في الوقت المحدد تتقدمها سرية المدرعات، بقيادة الملازم حمدان صبح وتتبعها سريتي المشاة. وعندما وصلت هذه القوة خط البدء، فتحت القوات اليهودية النار عليها من موقع بير ماعين، الذي ظن قائد الكتيبة أنه خال من العدو. ولم يكن أمام القوة من خيار في ذلك الموقف الحرج، إلا التقدم بسرعة نحو الهدف وهو تلة البرج. ومما زاد الموقف صعوبة أن أشعة الشمس الساطعة كانت تواجه عيون الجنود أثناء تقدمهم نحو الهدف، مما يؤثر على التمييز المباشر للأهداف.

احتدمت المعركة وصب العدو نيران أسلحته المختلفة، على القوة المهاجمة من بير ماعين ومن تلة البرج، ولكن استمرت القوة بالتقدم. وفجأة صاح سائق المدرعة التي يركبها قائد السرية الملازم حمدان : لقد أصبت . . لا أستطيع أن أرى الطريق أمامي . . يبدو أنني فقدت عيني . . ( كانت شظية قنبلة قد اخترقت إحدى عينيه، وأخذ الدم يتدفق من وجهه ). فأجابه الملازم حمدان : ” ليس المهم أن ترى بعينيك . . اضغط على دواسة المحرك بقدمك بكل قوة وسق إلى الأمام “.

أطاع السائق الشجاع أمر قائده ونفذه فورا دون تردد، واستمرت المدرعة بالاندفاع نحو تلة البرج التي يحتلها العدو، ولكنها أُصيبت بقذيفة صاروخ ( مدفع بيات ) من كمين جانبي، فتوقفت ثم انقلبت حيث اخترقت الشظايا جسم حمدان. وعندما نُقل لاحقا إلى المستشفى، نزع الطبيب من جسده أكثر من مائة شظية. ورغم هذه الإصابة الخطيرة، فقد كتب الله لحمدان النجاة وعاش بعد الحرب.

* * *

التعليق : من مجريات هذه المعركة نستخلص الدروس التالية :
1. أن جنود الكتيبة الثانية الذين كانوا يتوقون لقتال العدو، ولم يكونوا على ثقة بقائدهم البريطاني. وبالمناسبة فهذه الكتيبة التي كان يقودها الرائد منصور كريشان، هاجمها العدو في تل الذخيرة في مرتفعات القدس خلال حرب عام 1967، فقدمت الكثير من التضحيات، استحقت بعدها إطلاق اسم كتيبة أم الشهداء عليها.
2. لم يخطط قائد الكتيبة لمعالجة العدو في بير ماعين، سواء كان مقصودا أم عن جهل، فكان تدخلهم قد حدث بقوات الهجوم، في أصعب مرحلة على خط البدء وفي ساعة الصفر.
3. أختار قائد الكتيبة الهجوم على موقع العدو في المرتفع، وأمام أنظاره في وضح النهار، دون مراعاة عامل المفاجأة، الذي يمكن تحقيقه وتخفيف الخسائر لو كان الهجوم ليلا.
4. لم يأخذ قائد الكتيبة باعتباره في خطة الهجوم مواجهة أشعة الشمس، مما يحد من قدرة المدفعيين والرماة على تسديد النيران نحو العدو بدقة.
5. التصميم والشجاعة التي أبداها جنود القوة المهاجمة، في مواجهة عدو متحصن نهارا وعلى قمة تلة مرتفعة، تشكل منتهى الإقدام في تنفيذ الواجب.

التاريخ : 13 / 8 / 2019

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الفريق موسى العدوان شخصيه عسكريه وطنيه من رجالات الاردن التي لها ماض عريق وتاريخ مشرف معروف بوطنيته ووفائه لوطنه وفلسطبن ولامته العربيه وهو يتعاطى الادب والكتابه بطريقه جميله وممتعه للغابه وننتظر مقالاته بكل شوق ولهفه فهو الاردني الصادق النبيل الذي يحمل مشعلا به نور ومعرفه يفتح صفخات مشرقه من تاريخ هذا الوطن وجيشه الاردني جيش الامه صاحب بطولات لم ولن ينساها التاريخ في فلسطين الحبيبه من يستطيع ان ينكر بطولات جيشنا العظيم نحن في هذا الوطن تربينا على حب هذا الوطن والجيش لاننا نعلم ان هذا الجيش دوره الوطني هو فخر للامه .كل الاحترام لكم ولما تكتبون من جميل ورائع وصدق الذكريات ونطلب من العلي القدير ان يمتعكم بالعمر المديد وتمام العافيه .

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى