#صناعة_الشعر: تكسب أم تسَوُّل ؟
أ.د.خليل الرفوع
من الظواهر الاجتماعية التي لازمت #الشعراء منذ بداياته قبل #الإسلام بمئتي عام إلى يومنا هذا اتخاذُ #الشعر #حرفة لكسب #المال ، أي المدحُ ابتغاءَ العطاء ، كان المالُ قديما الإبلَ والذهب ومن بعدُ الدراهم والدنانير وجنات الزروع وغير ذلك من الأُعطيات ومصادر الكسب والرضا.
التقربُ من عِلْيَة القوم وأعيان المجتمع ومدحهم أكانوا حكامًا أم قادة أم سادة أم علماء نزعةٌ بشرية ليست خاصة بالشعراء ، وقد تتخذ أساليب مختلفة لكن ما يميز الشعراء هو أن سبيلهم الكلمة الصارمة فنيًّا تقال جِهارا ، ومهما أعطي الشعراء من مال فلا يعدل مثقال قصيدة محملة بالدهشة والجمال والخلود ، فلقد عُرِفَ هَرِمُ بنُ سِنَان وهو من قبيلة مُرَّةَ بمدحِ الشاعر الكبير زهير بن أبي سلمى له لإتمامه الصلح بين قبيلتي عبس وذبيان ومن حالفهما من القبائل في العصر الجاهلي بعيدَ حرب داحس والغبراء ، وكان هرم كلما مدحه زهير زاد في العطاء ، وفي ذلك يروى عن الأصمعي (توفي 216هـ) راوية الشعر وعالم العربية ، قولُه : قال عمر رضي الله عنه لبعض ولد هرم بن سنان: أنشدني مدحَ زهيرٍ أباك، فأنشده، فقال عمر: إن كان ليحسن القول فيكم، فقال: ونحن والله إن كنا لنحسن له العطاء، فقال: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم، ولقد سمَّى عمر زهيرا شاعر الشعراء حينما طلب من عبدالله بن عباس في طريقه في أول غزوة غزاهها أن ينشده لشاعر الشعراء زهير مبررا ذلك بقوله : لأنه لا يمنطق عباراته ويتجنب غرائب الألفاظ ولا يمدح الرجل إلا بما فيه ( أي يصدق في ما يقول) ، ولقد أنشده حتى صلاة الفجر ، وعمر هو الذي اشترى من الشاعر الحطيئة – بعد أن أقذع في هجاء الزَّبرقان بن بدر سيد تميم وشاعرها – أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم من بيت مال المال كيلا يعود إلى هجاء أحد من المسلمين ، فَلِمَ يكون اللوم للشعراء دون الممدوحين! ، وهذا الموقف يذكرنا بموقف أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي رفض دخول الشعراء لمدحه لرفَثٍ في أشعرهم وهم : عمر بن ابي ربيعة وجميل بثينة وكثير عزة والأحوص الأنصاري والفرزدق والأخطل التغلبي ، حتى أُذِنَ لجرير فمدحه وأعطاه مائة درهم من ماله اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يُمْدَحُ فيُعطي فقد كسى الشاعرَ عباس بن مرداس حُلَّة ، وألقى على كعب بن زهير بردته ، وحينما خرج جرير سأله أولئك الشعراء ما وراءك ؟ قال ما يسوؤكم ، خرجت من عند أمير المؤمنين يعطي الفقراء ويمنع الشعراء ، وإني عنه لراضٍ ، ثم أنشأ يقول :
رأيت رُقَى الشيطان لا تستفزُّه
وقد كانَ شيطاني من الجِنِّ راقِيا
ومن أشهر الشعراء المتكسبين بشعرهم إضافة إلى زهيرٍ النابغةُ الذبياني ، فروايات المؤرخين تتفق على أنه نال حظوة كبيرة عند ملوك المناذرة في الحِيْرة وخاصة النعمانَ بنَ المنذر الذي قرّبه إليه بعد أن أحسن وِفادته ، ويذكر أبو الفرج الأصفهاني في أغانيه أن النّابغة كان يأكل معه ويشرب في آنية من الفضة والذهب ويعطيه مئاتٍ من الإبل تسمى العصافير لأصالتها وجمالها ونفاستها.
فلا يضير هذين الشاعرين التكسبُ بالشعر وغيرهما كالأعشى وحسان بن ثابت والحطيئة ومن جاء بعدهم كجرير والفرزدق وبشار وأبي تمام والبحتري وغيرهم من الشعراء الذين وقفوا على باب الرسول صلى الله عليه وسلم مادحين وبلاط الخلفاء والأمراء ؛ فقد كان التكسب مصدرا اقتصاديا لكنه ليس كالغزو أو النهب أو السلب إثمًا وسفكَ دماء ، وهو كذلك تكسب وليس تسولا ، أو لنقل إنه تكسبٌ من أجل العيش ، فقد يكون الشاعر مجبرا على المدح طلبا للحياة وتجنبا للظلم أو البطش أو القتل ، وقد يكون مدحُه قناعًا لِطِيَّات في نفسه أو للتخلص من كلمة أو موقف أو تمرد سيعاقب عليه فيكون فيه منجاتُه ، ولا ريب أن هناك من الممدوحين مَنْ يستحق المدح كما يوجد من لا يستحقه ، والحكم يكون على شعر الشعراء وليس على حياتهم الشخصية فقد كان للنقد منذ القدم رأيٌ بيَّن في الفصل بين الفن والدين أو بين الإبداع والحياة الشخصية ، فأكثر الشعراء الكبار الفحول قديما وحديثا لم يكونوا متدينين ، وكما يقول الأصمعي :”الشعر نَكِدٌ بابه الشر فإذا دخل في الخير ضَعُفَ” ، فهم ليسوا أنبياء أو مصلحين أو ملوكا أو سياسيين واقعيين حتى يحكم على أعمالهم وأخطائهم وبذلك يُفْهم قولُ حسان بن ثابت شاعر الجاهليةِ من قبلُ والدعوةِ الإسلامية من بعدُ ” أعذب الشعر أكذَبُه”.
فأعظم عصر أدبي هو العصر الجاهلي- ما قبل الإسلام – وأكثر شعرائه متكسبون لضنك الحياة وشظف العيش وقلة سبل وسائل الرزق ، لكنهم هم من أسس للعربية أسلوبها وبيانها ، وبشعرهم تشكلت وحُفِظت، فهل نبقى نقول إنهم كفار من أهل جهنم، وأن شعرهم في ملوك الغساسنة والمناذرة وسادة القبائل تكسب لا قيمة له في موازين النقد ، ثم ما الذي قدمناه في عالم النظريات النقدية المعاصرة ، وهل نظرياتنا النقدية تؤسس لفنون الأدب وتتقدم عليها أم أنها تابعة تلهث في مضمار جُحر ضَبٍ خربٍ حذْوَ القُذَّة بالقُذة. .
وماذا يقال عن المتنبي سيد الشعراء وشاعر السادة الأول الذي لا يضاهيه في التكسب وطلب الأعطيات أحد من الأولين والآخرين ، وكيف يكون حال الشعر العربي لو ألغي منه شعرُ المتنبي أو شعر الجواهري متنبي هذا الزمان أو غيرهما في الدهشة الجمالية والبيان الفائق إيحاء وإيقاعا وتصويرا وفنية ، وكذلك يقال عن شعر محمود درويش بعيدا عن مواقفه العقدية العدمية وسلوكه السياسي التخاذلي فشعره في مرتبة عليا من الجمال التصويري الذي جدد في حركية اللغة وتحولاتها فنيا.
وبعد ،
فليس ثمة دعوة لإبطال الحق أو إحقاق الباطل في واقع المشتبهات ، كما أننا لسنا أمام قصائد تؤرخ الزمن والحدث بلغة معجمية محنطة، بل نحن أمام بناء فني خيالي قد يكون مضمونه صدقًا أو كذبًا أو مختلفا في حقيقته ، ولا يمنع هذا من الانتصار للحق بالإبداع شعرا على الرغم من أن أكثر الشعراء يقولون ما لا يفعلون .
أ.د.خليل الرفوع
الجامعة القاسمية