#شعبية #الوزير و #العمل #المنتج . . !
موسى العدوان
الدكتور غازي القصيبي ( 1940 – 2010 ) شاعر واديب سعودي، حصل على شهادة بكالوريوس في الحقوق من جامعة القاهرة، ودرجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا الأمريكية، والدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة لندن البريطانية.
أشغل غازي عدة مواقع هامة في الحكومة السعودية من أهمها ، مدرسا في جامعة سعود، مديرا للسكة الحديد، وزيرا للصناعة والكهرباء، وزيرا للمياه والكهرباء، وسفيرا للملكة العربية السعودية في بريطانيا. ونظرا لنجاحه في مختلف المناصب التي أشغلها، فقد جرى تعيينه عُين وزيرا للصحة، رغم انه لا يحمل أي تخصص طبي.
يقول الدكتور غازي في كتابه ” حياة في الإدارة ” ما يلي وأقتبس :
” وكانت هناك الشعبية . . كنت أتوقع عندما توليت وزارة الصحة أن أكون اقل الناس شعبية . . كنت أتوقع أن يتساءل الناس كما فعلوا في المرة السابقة : ماذا فعل لنا الوزير الجديد ؟ الحقّ أقول، إني كنت أول من فوجئ بالشعبية التي انفجرت من الشهر الأول. كل من اراه تقريبا، كان يتحدث عن عجائز في البيت يدعين لي. اللهم إيمانا كإيمان العجائز . . واللهم تقبل دعاء العجائز !
الأعداد التي تحضر مناسبات الافتتاح تضاعفت، وانهمرت رسائل الإعجاب وقصائده، وزاد عدد المواطنين الذين يعبّرون عن حبهم، بإطلاق اسمي على مواليدهم. ومع الشعبية وُلدت الأسطورة . . ! والأسطورة كما نعرف، تقوم على جزء يسير من الحقيقة، وجزء كبير من الخيال. بدأت أسطورة الوزير الذي يظهر في كل مكان، ولا يهاب التعامل مع موظف مدعوم، وينتصر للمواطن المظلوم من الجهاز الظالم.
بدأت أتلقى مكالمات هاتفية من منطقة جيزان، تشكرني على الزيارة التي قمت بها البارحة لمستشفى جيزان. وبدأت أتلقى برقيات الشكر من تبوك على الزيارة التفقدية، التي قمت بها هذا الأسبوع للمرافق الصحية في تبوك. الحقيقة كانت . . أنني لم أزر جيزان أو تبوك في تلك الفترة. بدأ الناس مراجعين وموظفين يرونني حيث لم أكن موجودا . . .
إذا كانت الشعبية تؤدي إلى السعادة، فلابد أنني أختلف عن بقية البشر. كانت الفترة التي قضيتها في وزارة الصحة، أتعس فترات حياتي على الإطلاق. لا أبالغ إذا قلت أني لا أذكر يوما واحدا سعيدا من تلك الفترة. كل أصدقائي الذين يعرفونني عن كثب، لاحظوا أني كنت وقتها أعاني من الكآبة الدائمة. كل أصدقائي الحقيقيين تمنوا لي الخروج حرصا على صحتي ( أما الآخرون فتمنوا الخروج لأسباب أخرى ).
كانت الأسباب التي تدعو إلى الكآبة تُطلّ من كل مكان. هناك أولا الخوف من هول المسؤولية. عندما يتأخر القطار لا يموت أحد، وعندما يخسر المصنع لا يموت أحد. وعندما تنقطع الكهرباء لا يموت احد. ولكن عندما يخطئ المرفق الصحي، فإن احتمال موت أحد احتمال قائم.
وإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خاف أن يحاسبه الله عز وجل، عن شاة نفقت بعد أن عثرت في العراق، فما بالك بالوزير المسؤول عن مرفق يمس مباشرة أرواح الناس ؟ لم تكن تراودني ذرة من الشك، أني سأكون مسؤولا أمام الله، مسؤولية شخصية عن أي خطأ يرتكبه أي عامل في القطاع.
وهناك ثانيا المناظر اليومية الفاجعة. كنت كلما زرت مستشفى من مستشفيات الصحة النفسية، أو أبصرت ضحايا الحوادث من الشباب المصاب بالشلل، عدت إلى المنزل محتقنا بالحزن. أحيانا كنت ابكي بمرارة بعد زيارة كهذه. وهناك ثالثا ألم القرارات الصعبة. لا يوجد إنسان يحب قطع رزق إنسان آخر، أو تعكير صفو حياته على أي نحو، ولكن لم يكن أمامي خيار.
لعل القارئ عندما استعرض معه بعض التجاوزات التي كنت اراها بصفة يومية، سيصل إلى اقتناع، بأن الإجراءات التي اتخذتها كانت اقل – لا اقصى – ما يمكن اتخاذه إزاء هذه التجاوزات. فالطبيب الذي تحرش بممرضة، وتبين في التحقيق ان في ملفه سبع مخالفات سابقة مماثلة، هل كان بوسعي أن أبقيه ليتمتع بمزيد من التحرش مع مزيد من الممرضات ؟
الطبيب الذي كان يُقفل مصعدا ويخصصه لاستخدامه الشخصي وحده، تاركا المصعد الآخر الذي كان كثيرا ما يتعطل، للمرضى والعاملين في المستشفى، هل كان بوسعي أن أتركه حتي يقرر استخدام المصعدين معا، وترك المرضى يدبّون على السلالم ؟ . . .
الطبيب ( المزيّف ) الذي كان يرتدي زي الطبيب ويحمل سمّاعة، ويأتي من خارج المستشفى ليفحص المريضات فحصا موضعيا دقيقا، هل كنت أستطيع إرساله إلى أي مكان سوى المحكمة الشرعية ؟ الخ . . .
لم اكن ابحث عن تجاوزات ولم يكن يسرني وجود التجاوزات، ولكن كان لابد أن اتصرف والتجاوزات تمد أمامي أعناقها، وأحيانا تُدخل أصابعها في عيني. مع كل قرار تأديبي يصدر كان هناك عدو ( أو عدوة ) يولد. وبمرور الأيام أصبح هناك جيش من الأعداء، يستخدم كل الأسلحة، بما فيها الأسلحة غير المشروعة بوجه خاص . . ! انتهى الاقتباس.
- * *
التعليق : الوزير السابق غازي القصيبي رحمه الله، كان وزيرا استثنائيا مبدعا في كل عمل تولاه. وهذا ما جعل القيادة السعودية في حينه، تعهد إليه بمنصب وزير للصحة. فقام بمسؤوليات وظيفته بكل جدارة، شكلت علامة فارقة في كيفية إدارة مؤسسة فنية بصورة مميزة، من قبل رجل يحمل اختصاص مختلف، فحقق نجاحا غير مسبوق.
وهذا يثبت على أن الرجل الإداري المخلص وصاحب الضمير الحي، يستطيع إدارة مؤسسة فنية، فيطورها ويحقق فيها نجاحا ملموسا يظهر للعيان. وكم ناديت بأن لا نخسر تخصص طبيب مشهور في مهنته، فنسند له وظيفة إدارية سواء كانت بمستوى مدير أو وزير، بل يجب أن تُسند هذه الوظيفة إلى رجل يحمل تخصص إدارة مستشفيات، أو أي تخصص إداري آخر على أن يكون من ذوي الكفاءة وحب العمل.
التاريخ : 28 \ 9\ 2021