سواليف
ارتبطت الأهرامات دائماً بمصر، خصوصاً مع عظمة أهراماتها الثلاثة المشهورة في مدينة الجيزة، لكن المفاجأة أن العدد الأكبر للأهرامات لا يوجد في القاهرة أو حتى مصر كلها، بل في دولة أخرى. على بُعد 220 كيلومتراً شمالي العاصمة السودانية الخرطوم، يوجد أكبر تجمُّع للأهرام في العالم؛ صفوف من الصخور التي تلمع تحت أشعة الشمس الساطعة. فعكس ما يظنه الكثيرون، ليست مصر هي الدولة صاحبة أكبر عدد من الأهرام في العالم، لكنها السودان. في تلك المنطقة، تتناثر أهرام مروي الأثرية المسجلة في قائمة التراث العالمي لـ”اليونيسكو”. إن إلقاء نظرة على صور الآلهة المصرية المصوَّرة بشكل واضح في مقبرة رجل تُوفي عام 653 قبل الميلاد، هو امتياز مطلق؛ ولكن، من دون السياق، يصبح الأمر محضَ تضليل. بالنسبة إلى مروي، فإنها لا تقع في مصر، وإنما بالسودان، شمالي العاصمة الخرطوم. فعالم الفراعنة قد بلغ أقصى الجنوب. وهنا في شمالي السودان، كان المصريون القدماء قد خلّفوا وراءهم ثروة من المعابد والأهرام، على مدار 42 قرناً من الزمان. ورغم أهميتها وقدم تاريخها، فإنها مجهولة عند الكثيرين؛ لكونها لا تحظى بالاهتمام الإعلامي الذي تحظى به أهرام أخرى. فإذا ما ذكر شخص ما كلمة “أهرامات” فإن أول ما يتبادر إلى ذهن المستمع هو أهرامات مصر، ولعل هذا ناجم عن الاهتمام الحكومي والإعلامي الدولي بها طوال العقود الماضية، لكن في المقابل عانت أهرامات مروي من إهمال كبير.. مدينة مروي كانت أحد أهم مراكز مملكة كوش، تلك المملكة التي استمرت بين عامي 900 قبل الميلاد وحتى 400 ميلادية، وحكمت أجزاء واسعة من وادي النيل الأوسط، حتى إنها سيطرت على مصر فترة من الزمن عبر الأسرة الـ25، المعروفة تاريخياً بفترة الفراعنة السود، حين أصبح الملوك الكوشيُّون هم فراعنة مصر. لم تكن مروي هي العاصمة في البداية؛ بل كانت مدينة “نبتة”، التي تقع في الشمال منها، ولكن بعد خلاف بين الملك الكوشي أركماني ورجال الدين، قام الملك بمذابح لكهنة المعابد، واتَّخذ قراراً بفصل السلطة الدينية عن السياسية. (الموقع القديم لمدينة نبتة) مِن هنا، قرَّر نقل العاصمة من مدينة “نبتة” الدينية إلى مدينة أخرى، يحظى فيها رجال الدين بسلطة أقل، فأصبحت مروي هي العاصمة. هناك قرَّر الملك أركماني إلغاء اعتماد اللغة الهيروغليفية كلغة للدولة، وقرر عبادة إله الحرب “أبادماك” بدلاً من عبادة الإله أمون. بهذه القرارات، بدأ العصر الذهبي لمروي، التي تحوَّلت لعاصمة دولة كوش، وإلى جوار هذه العاصمة بُنيت الأهرام كمقابر للملوك الكوشيين.
إهمال تاريخي
وأوضح عبدالله شم، الإعلامي السوداني والباحث في الحضارة السودانية أسباب إهمال الحكومة السودانية للأهرامات وللتاريخ السوداني القديم بشكل عام، فذكر أن الأسباب أيديولوجية، فالدولة السودانية نظرت إلى الآثار كونها “بقايا حقبة وثنية لا تنتمي إليها هويتها العربية الإسلامية”. وأضاف أننا عندما ندرس تاريخ السودان في المدارس، فإننا نتجاهل حقبا تاريخية ا باعتبارها تاريخاً وثنياً. وقال: “يجب علينا كسودانيين الاعتزاز بكل فترات تاريخ السودان، سواء كانت الحقبة القديمة الكوشية أو المسيحية النوبية أو الإسلامية العربية”. في المقابل أوضح الباحث السوداني محمد المجتبى مبارك الفارق بين أهرامات الجيزة المصرية وأهرامات مروي السودانية: “هناك فارق كبير بين نمط البناء المصري ونمط البناء السوداني الكوشي، ويظهر هذا الفارق في الكم والكيف”. وذكر أنه فيما يتعلق بمواد البناء وحجم الصخور، فأهرام مصر اعتمدت على صخور أكبر، لدرجة أنه يبلغ حجم الصخرة في بعض الأهرامات المصرية طناً كاملاً، بينما اعتمد الكوشيون على صخور أصغر. كما أن المصريين فَطِنوا جيداً لأمور لم يعرفها الكوشيون، فاكتفوا ببناء أهرامات أقل، بينما الكوشيون بنوا عدداً أكبر من الأهرامات، وهو ما عرَّض الأهرام الكوشية للسرقة، لا في العصر الحديث، بل حتى في العصور القديمة.
إيزيس وآمون على جدران الأهرام
في هذه الأهرام، يمكنك ملاحظة وجود رسومات أنيقة تسجل إنجازات كل صاحب هرم من الملوك. في أحدها، ترى إيزيس، ربة الأمومة؛ وأنوبيس، إله الموتى ذو رأس ابن آوى؛ وتحوت، الرُّبّاح إله الحكمة، وهم ينقلون معاً أحد الملوك باتجاه أوزوريس، إله البعث والحساب. تنتقل إلى الرسم الجداري على حائط آخر، حيث يُرَى الملكُ وهو يتحرك إلى الخلف نحو المَخرج، إلى داخل “العالم الآخر”. وقال محمد مبارك، وهو أحد الموظفين العاملين مع المشروع القطري-السوداني لتنمية الآثار، في تصريحات لـ”عربي بوست”، إن الأهرام الموجودة بهذه المنطقة تنقسم إلى 3 أقسام رئيسية؛ المجموعة الشمالية، والمجموعة الجنوبية، والمجموعة الغربية. وذكر أن البناء في الأهرام بدأ أولاً على شكل أكوام، ثم مساطب، ثم تحولت لأهرام. المجموعتان الشمالية والجنوبية هما للملوك والملكات والأمراء المتوَّجين، بينما المجموعة الغربية هي لرجال الدين وصفوة المجتمع. وارتبط الكوشيون بالآلهة نفسها التي كانت تُعبد في مصر القديمة، وهي أوزوريس وإيزيس ولفتس، ثم بعد ذلك عُبد حورس وآمون، واتحد آمون مع رع فأصبح آمون رع. الإله آمون كان أكثر الآلهة نفوذاً، وأكثر الآلهة الذي استمر الكوشيون في عبادته، ويرجع سر ذلك إلى أن “الهكسوس” الذين احتلوا مصر، احتقروا آمون؛ ما دفع كهنة آمون للهروب للسودان، حيث نشروا دعوتهم، ومن غير المعروف شكل الديانة التي كانت عليها مملكة كرمة ما قبل ظهور عبادة آمون.
البداية منذ 3800 عام
يقول الباحث المهتم بالتاريخ السوداني مجتبى مبارك، لـ”عربي بوست”، إن التاريخ السوداني القديم مر بحِقب متعددة، ولا يمكن اختزاله في فترة مروى فقط، “لو أردنا رسم خريطة زمنية، فإن تاريخ السودان القديم بدأ مع مملكة تاسيستي في 3800 قبل الميلاد، التي كانت حدودها من السلسلة الكبانية شمال أسوان وحتى حلفا”. ثم جاءت بعد ذلك مملكة كرمة (كوش الأولى) من عام 2500 إلى 1480 قبل الميلاد، حتى سقطت على يد تحتمس الثالث، الإمبراطور المصري الذي سيطر على كرمة 6 قرون كاملة، حتى قيام مملكة “نبتة”. هذه المملكة الخيِّرة كان من ضمنها الأسرة الفرعونية الـ25 الشهيرة، والتي من ضمن ملوكها ملوك مروى أصحاب الأهرام، والذين استمرت دولتهم مزدهرة حتى قيام الممالك المسيحية. وأضاف مجتبى أن تاريخ مروي قديم جداً، ربما يكون قبل التاريخ الشائع لها، والذي يرجع هذه المدينة إلى زمن الملك أركماني. فالمؤرخون الذين يقولون إن مدينة “نبتة” كانت عاصمة كوش، يواجَهون بمعضلتين، هما أنه لم يتم العثور على أي هيكل عظمي لطفل في “نبتة”، ما يعني أنها لم تكن مدينة للمعيشة وإلا كان من المنطقي وجود الأطفال بها. كما أن دراسات المسح الذري لخَبَث الحديد الموجود في مروى (التي كانت من كبار مصنّعي الحديد في ذلك الوقت)، كشفت أن عمره يرجع لفترة تسبق الملك أركماني، ما يعني أن مدينة مروى القديمة أكثر عراقة مما نظن. من جانبه، قال الباحث عبد الله شم، لـ”عربي بوست”، إنه ثبت مؤخراً أن أركماني ليس هو أول من يًدفن في مروى؛ ومن ثم فإن تاريخ أهرام مروي أقدم مما يُعتقد. فمن عام مضى، عندما تم فتح هرم الملكة “خنوة”، اكتُشف أنها أقدم من أركماني، وهو ما سيغير ترتيب الملوك والملكات. وبالنسبة لأركماني، فقد اشتُهر بسبب الثورة الدينية التي قام بها، وتخلَّص فيها من عبادة آمون، الإله المصري، لصالح أبدماك. وبين المدفونين في الأهرام ملوك وملكات عظام، كالملكة “أماني توري” وزوجها الملك “نكتماني” اللذين شيَّدا معبد آمون، ومعبد الأسد في النقعة. هذا بالإضافة إلى الملكة “أماني شاخيتي” صاحبة المجوهرات الشهيرة، التي سرقها أحد المنقبين والمعروضة بمتحف ميونيخ، والملكة “أماني ريناس” التي قهرت جيش الإمبراطور الروماني أغسطس، واستطاعت انتزاع مدينة أسوان منه، وفرضت على الرومان توقيع معاهدة سلام استمرت 5 قرون.
الكشوفات الأثرية المتعاقبة على أهرام السودان
الكشف الأثري الحديث عن أهرام مروي يبدأ مع حملة محمد علي باشا عام 1821 على السودان، عندما رافق الحملة العسكرية مجموعة من العلماء من مختلف التخصصات؛ في محاولة منه لمحاكاة الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت على مصر. وكان في الحملة طبيب إيطالي وصائد كنوز اسمه جوزيبي فرليني، الذي أثارت الأهرام اهتمامه؛ لاعتقاده وجود كنوز بداخلها، فقام بتفجير قمم الأهرام بالديناميت؛ بحثاً عن الذهب. وبالفعل، وجد الذهب والمجوهرات النفيسة في هرم الملكة “أماني شيخاتو”؛ وهو ما أدى إلى تدمير هرمها بشكل شبه كامل، وسرقة مجوهراتها الملكية وإرسالها إلى أوروبا (وهي معروضة اليوم في متحف ميونيخ). وقد ذكر تفاصيل فعلته في كتابه “ذهب مروى”. وقد أحدثت هذه المجوهرات ضجة في الأوساط العلمية، دفعت العديد من البعثات الأثرية للقدوم إلى السودان، وكان من أهمها البعثة البروسية الملكية عام 1844، والتي اهتمت بدراسة كيفية بناء الأهرام، وقامت بإعداد توصيفات شاملة لذلك. وتعاقب علماء الآثار على المنطقة، وكان من أهمهم العالم الأميركي جورج أندرو راينزر، الذي ابتعثته جامعة هارفارد وقام بحفريات دقيقة، واستطاع حفر كل الأهرام والدخول إلى الغرف الملكية، حيث عثر على عدد كبير من القطع الأثرية الجنائزية، التي أخذ بعضها معه إلى متحف بوسطن للفنون الجميلة. ومن بعده، جاء العالم فريدريش هنكل عام 1960، وشارك في إنقاذ الآثار السودانية من السد العالي، وصمم المتحف القومي السوداني، ووهب كل حياته للآثار السودانية حتى تُوفي عام 2007، وأصبح أرشيف أبحاثه ملكاً للمعهد الألماني للآثار. وفي عام 2014، أرسلت هيئة متاحف قطر البعثة القطرية لأهرام السودان (QMPS) كمبادرة من الدوحة لخدمة التراث الأثري الذاخر بالسودان، وتركز البعثة عملها في القيام بالأبحاث الأثرية وصيانة وترميم وحماية الأهرام، في إطار خطة قَطرية لدعم وتطوير السياحة بالسودان. وقد قامت البعثة القطرية بتوثيق 28 هرماً بالتصوير الثلاثي الأبعاد باستخدام الليزر، كما قامت بتوثيق النقوش الأثرية بواسطة تقنيات تصوير عالية وإجراء مسوحات أثرية وجيوفيزيائية، وإعداد خريطة طبوغرافية، كما قامت بتوثيق وحوسبة أرشيف العالم فريدريش هنكل الموجود في المعهد الألماني للآثار ببرلين.