سواليف
بهدوء يمشي ثلاثتهم في باحات المسجد الأقصى ، بعدما صلوا ركعتين متأخرتين في المصلى القبلي، توقف محمد قرب أحد أسبلة الماء، “يلا شباب، أرتووا من ماء الأقصى للمرة الأخيرة”.
تراقبهم كاميرات الاحتلال المزروعة في كل مكان، بينما يواصلون السير في الباحات، وقد اختاروا هذا الوقت بعناية، إذ يكاد يكون المسجد خالياً من المرابطين والمصلين، فاليوم الجمعة الكل يتأخر بالقدوم وقلوبهم مطمئنة أن باب المغاربة مغلقاً أمام اقتحامات المستوطنين.
امتدت جولتهم إلى صحن قبة الصخرة، توقف المحمدان والتقطا صورة “سيلفي” تشاركهم بها وهي تطل من الخلف قبة الصخرة، بعدما فشلوا في إقناع المحمد الثالث بمشاركتهم الصورة، وقد اكتفى بالوقوف والتمتمة للسماء.
الساعة السابعة تماماً، قال أحدهم، “يلا شباب” .. واصلوا السير، يمازحون بعضهم ويقهقهون، محافظين على ذات الهدوء، “سامعين هالصوت؟ .. هالعصفور ما بسمعه صوته إلا بالأقصى”.
بعد دقائق، وصلوا باب الأسباط حيث طل الكارلو وكأنه ولد منهم الآن، وأعلنت بداية المعركة بزرع أولى الرصاصات من مسافة الصفر في رؤوس اثنين من جنود الاحتلال، أغرهم الهدوء الذي عم.
أوشكت أن تعتاد القدس على صوت الكارلو يدوي في باب العامود بعد عدة عمليات نار فدائية، نفذها مقاومون بعدما أدوا صلاتهم الأخيرة في المسجد الأقصى، إلا أن الكارلو اليوم يدوي في قلب المسجد الأقصى، معلناً السيادة الفلسطينية الكاملة عليه.
ومن يقترب، ومن يجرؤ أن يقترب.. سيواجه الموت!
هلع جنود وشرطة الاحتلال، داروا حول أنفسهم كثيراً قبل أن يلاحقوا الفدائيين الثلاثة الذين ركضوا إلى شعاب مسجدهم، التي هم وحدهم أدرى بها.
ما زالت السماء تظلل صحن القبة ومن عليه من ثوار اشتبكوا بالمسدسات والكارلو مع جنود الاحتلال.. لتسقط الأجساد الثلاثة في المعركة الضارية، وتلتقط السماء أرواحهم.
انتبه محمد أن روحه لم تلحق صديقيه بعد.. لملم جراحه وأكثر من خمسة أسلحة موجهة عليه، لينهض وسطها يواصل إطلاق الصلية التي بقيت في سلاحه الوفي، قبل أن يمطره جنود الاحتلال مجددا بزخات الرصاص.
اهتز الاحتلال، إصابات وقتلى في جنوده في الرقعة التي يعربدون فيها يومياً متباهين بفشل الفلسطينيين حماية حرمة مسجدهم، متباهين بالطعنات التي تخرز ضحكاتهم الساخرة في قلب كل من يراهم يدوسون مسجدهم.. ولكن اليوم اختلفت المعادلة تماماً.
الكل يحاول استيعاب ما حدث.. ليس مصدوماً، فالفعل المقاوم متوقع دائماً، ولكن عظمة الفعل المقاوم باختيار المكان والزمان والنتيجة التي أشفت القلوب، هي ما أثارت الدهشة!
يقف المحتل والأرض تدور حوله وهو يفكر كيف يمحي هذا الفعل؟! كيف يرجع الزمن؟.. لتظهر هويات المنفذين وتوجه طعنة جديدة في قلب الاحتلال.. ثلاثتهم من عائلة جبارين قدموا من مدينة أم الفحم المحتلة عام 1948.
فشل آخر للاحتلال، ليس لأنه تيقن مجدداً أن أدمغة فلسطيني الداخل لم تغسل بعد، بل لفشل مخابرته وأجهزته الأمنية بكشفهم مبكراً.. كيف هذا؟! ماذا حصل؟!
يصاب بالإغماء من هول ما وقع عليه، ليستيقظ مجدداً وقد صفعته ذات الأسئلة المرعبة: كيف وصلوا إلى هنا؟ .. كيف فعلوا ذلك هنا؟!
بالتأكيد لم يكن الوصول سهلا، ولم يقع الخيار على باحات المسجد الأقصى بالقرعة أو بالصدفة.. وإنما بدراسة وتخطيط للمستقبل، فهذا المسجد سيبقى الخط الأحمر!
وربما هذه البداية فقط!
شذى حمّاد – قدس الإخبارية