سنة كوفيد

سنة كوفيد
هاشم غرايبة

طبعا، كوفيد التاسع عشر هو أهم حدث ثقافي هذا العام، وكل حدث غير علمي بدا هامشيا جدا في ظله (حتى فوز لويز غلوك بجائزة نوبل للآداب كان فاترا جدا وسيمتد هذا الفتور حتى تذوى الجائزة). المهم عند الناس هو عدّاد الأرقام والمصفوفات والنسب المئوية الذي يحتل الشاشات.
هذه الأرقام التي بدأت صغيرة مرعبة، وكلما كبرت ألفناها أكثر، تدل على أن الإنسان يتعود على أي شيء مهما كان طارئا.
أذعنا، وتعودنا، وسلّمنا السيد كوفيد منصب “الأخ الأكبر”، وانصعنا لاشتراطاته السلوكية والثقافية. وانصاع المثقفون (المثقفون/ المنصاع فاعل ؟) لاشتراطات منصة زووم للقاءاتهم وندواتهم ومؤتمراتهم ومعارضهم.. وتواضع كبار الأدباء والفنانين والأكاديميين والمفكرين فأخضعوا إبداعاتهم لخصوصيات الفضاء السيبراني، واختصارات وسائل التواصل الاجتماعي.
الأرقام والنسب والمنحنيات والمصفوفات التي اقتحمت حياتنا، واستحوذت على اهتمامنا، وأطلقت مخاوفنا وشكوكنا وآمالنا، أثبتت هشاشة الإنسان وسخرت من تبجحه التاريخي.
“والعصر إن الإنسان لفي خسر”
لقد سرّع الأخ الأكبر – السيد كوفيد – ب”إدخال الجمل في سمّ الخياط”: الكتب. الأبحاث. المؤتمرات. المحاضرات. المسرح. السينما. المدارس. الجامعات. السمفونيات. المعارض. دور الأزياء. العمارة. المكتبات. الشركات. أمازون ودكانة أبو العبد. ماكدونالد ومخبز حسني الفران. أوبر وبكم أبو صقر.. الأفراد والأسر والجماعات؛ كلنا سنتقن أساليب جديدة في التواصل والتوصيل (في الاحتجاب والعزل أيضا)، وسنتكيف مع العالم الرقمي.
ها هي الثقافة بكل تفرعاتها تفكك خزائنها العتيقة وتحيلها وقودا لخوارزميات ما بعد كوفيد التاسع عشر.
لا شك أن عام 2020 شكل علامة فارقة في ثقافة البشر، وسيشكل مشهدا جديدا للمجتمع البشري، لقد بتنا محجوبون متباعدون عن بعضنا بعضا، مكشوفون حتى دواخلنا ورغباتنا وميولنا لخوارزميات الكمبيوتر “الأخ الأكبر القادم”، وسننتج خوارزميات ثقافية مختلفة عما ألفنا.
ما بعد 2020 نحن ذاهبون إلى ثقافة الذكاء الاصطناعي، وعلم الجينات، وعلم النانو، والحاسوب الكمي، والجيل الخامس من ثورة الاتصالات..
ما لفت انتباهي من الكتب الرائجة عام 2020 كتاب “الإنسان الإله” تاليف يوفال نوح هراري. والكتاب جاء استطرادا على كتابه الشهير “الانسان العاقل”.
يتعرض الكتاب للمفاهيم الليبرالية المسيطرة: السياسة/ الناخب يعرف أفضل من غيره. الاقتصاد/ الزبون دائماً، على حق. الجمال/ الجمال في عين الناظر. التعليم/ تعلّم بنفسك. الأخلاق/ لا تفكّر بغيرك.
وبعد عرض تاريخي لتطور البشر يصل بنا الكتاب إلى اختراق
التكنولوجيا لخصوصياتنا، وكيف صارت تعرف عنّا أكثر مما نعرف عن أنفسنا، وكيف تفوق الذكاء الصناعي على ذكاء البشر، ولم يعد الإنسان أفضل من يعرف.
الكتاب يقدم احتمالات سيطرة الحواسيب على المستقبل والنتائج التي ستترتب على المجتمع والسياسة والاقتصاد. ويقول:
ميزة الإنسان”الوعي”، وعندما تتفوق خوارزميات “غير واعية” خارقة الذكاء على الإنسان، فما قيمة “الوعي”، وهو شيء نراه يتحقق بشكل متسارع في يومنا هذا. تُرى كيف سيكون شكل العالم؟!.
آراء هراري أضعها في إطار الاحتمالات، فلست مقتنعا بكل ما جاء في الكتاب، لأننا عادة ما نلهث – دون تمحيص كثير- وراء الجديد والبراق وما نال جوائز شهيرة وما روجه الإعلام والفضاء السيبراني.
في ظل الحظر الذي يفرضه الجنرال كوفيد هذا العام، رجعت لخزانة الكتب المنسية أجترها من جديد.
نكاية بالرائج واللامع والأكثر مبيعا، قرأت الكثير من القديم الذي وجدته جديدا، ولكني علقت مؤخرا بكتاب مارسيل بروست “البحث عن الزمن المفقود” وما زلت غارقا في حل شبكة أو “شلبكة” صوره ومغازيه. هذا الكتاب لم أكمل قراءته سابقا. ولا أظني سأكمله حتى ولو طالت أيام الحظر وكثرت ساعات الفراغ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى