سمو معالي الإنسانية.. من الذكريات / د . ديمة طهبوب

سمو معالي الإنسانية.. من الذكريات
أخبرني مشرفي في الجامعة ببشرى قدوم بروفيسورة (الاستاذه الدكتورة) عربية للتدريس في قسم الدراسات الشرقية والتي ستكون بخبرتها الطويلة ومناسبة اهتماماتها الأكاديمية لموضوع بحثي في الأدب المقارن خير رفد ومعين، ولكن ما ظنه مشرفي بشرى وقع علي في البدء وقوع الصاعقة؛ اذ لم أكن بحاجة وأنا على أبواب التخرج الى آراء أخرى ناهيك أن خبرتي مع الألقاب في بلادنا العربية، لا تعدو كونها معاني فضفاضة لا تحمل من المضمون سوى اللفظ الذي تنطق به والحروف التي يكتب بها، ولكن هذه الاستاذة الحقة التي بذلت لي من نفسها وعلمها ووقتها ما لم يقدمه لي غيرها في الجامعة، دون أن تكون مكلفة بذلك جاءت لتصحح مسار بحثي، ولتعلمني ما هو أجل من طرائق البحث وأعمق أثرا في نفسي من نتائج دراستي، وهي أن الألقاب إنما تزينها مضامين ومثل في النفس الانسانية بها تكتمل وتتألق، فيسبغ معنى الانسان على مظهره، ويخبر مشهده عن مخبره، لا مجرد نياشين ومسميات وأسماء زائفة لدواخل منتنة ما زادها علو مكانتها في الدنيا الا انتكاسا في طبيعتها، فصدق فيهم قول الشاعر
ألقاب لأسماء في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
كانت هذه التجربة على غير ما ألفته في الناس- الا من قلة رحمها ربي- الذين يحفلون بالألقاب، بل ويتسابقون على تحصيلها ويستشيطون غضبا ان لم يعرف لهم الناس قدرهم بها، حتى إن أبي أخبرني ان المرء في الستينات ان لم يكن طبيبا او مهندسا كان نكرة لا ينظر اليه؛ فكان ابناء العرب يتابعون هذين التخصصين ولو في الصين، وازدادت الالقاب فمن معالي الى سيادة الى رفعة الى حضرة الى نيافة، الى سمو الى الباشا والسيد وابن العائلة الفلانية والسلالة العلانية، والألقاب تتعدى على جلال الذات الألهية متناسية قوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم «العظمة ردائي والكبرياء إزاري من نازعني فيهما قصمته ولا أبالي».
والغريب أن هذه الالقاب وما قد يلازمها من تكبر وتجبر وتصنع بعيدة كل البعد عن الثقافة العربية الاسلامية؛ فالاسلام جعل اكتساب الكرامة بالتقوى، وأسقط الأسماء والأنساب؛ لذا جاء في الحديث المرفوع إن من أبطأ به عمله لم يسرع نسبه، ومن أسرع به عمله لم يبطء به نسبه، وكان رسول الله صلى الله وسلم يتواضع للمسلمين، ويقول إنما انا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة، وما كانت الالقاب في الاسلام الا صدقا، فالصديق ابوبكر صدق الرسول في حديث الاسراء والمعراج حين كذبه الاخرون، والفاروق عمر فرق الله به بين الحق والباطل حتى إن أول لقب جمع بين الدين والسياسة كان توصيفا لحال، وأعطاه الشعب لاميرهم ولم يفرض عليهم، وذلك أنه عندما زار وفد الخليفة عمر بن الخطاب وكان ما زال يلقب بخليفة خليفة رسول الله فخاطب كبيرهم عمر بأمير المؤمنين فقال له عمر وما أمير المؤمنين، فأجابه ألسنا مؤمنين قال عمر بلى ان شاء الله، فرد الرجل أولست أميرنا فإذا انت امير المؤمنين، ومن هنا بدأ استعمال هذا اللقب، ولكن بزوال الخلافة الراشدة دولة ومضمونا، ومجيء الخلافتين الاموية والعباسية وازدياد طيلسان الدولة وبهرجة الحكم بدأ الاسراف في كيل الالقاب والمدائح لذوي السلطان؛ فكان خلفاء بني العباس يلصقون لقبهم مع اسم الله كالمعتصم بالله والمستعصم بالله والعاضد لدين الله، ويعتقدون انهم ظل الله على الأرض، مع أن اول خلفائهم لقب بالسفاح لشدة ما أسرف في القتل للتوطيد لملك جبري قسري.
وقد حرص الاسلام على إزالة أسباب الكبر والعجب الذي قد يطغي النفس الانسانية؛ فجاء في الأحاديث الشريفة أن من تواضع لله رفعه الله، ومن كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله فوق رؤوس الخلائق يوم القيامة يخيره من الحور العين انى شاء، وما زاد الله بعفو الا عزا.
كما فتح الاسلام للبشر على اختلاف أحوالهم بابا لادراك المعالي وشجع على استكمال أسبابها، وقيدها بعقال النفس اللوامة، التي تؤمن أن الفضل إنما بدر من الله لعباده، وأنه ما أهلك فرعون وقارون الا أن قالوا إنما أوتيناه على علم وقوة عندنا، وحث أيضا على أن يكون المسلم صاحب نفس تواقة الى كل خير ورفعه، ووصف من لقب بخامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز هذه النفس التواقة عند توليه الخلافة قائلا: ان لي نفسا تواقة كلما بلغت منزلة تاقت لاعلى منها، وان نفسي الان تتوق الى الجنة فأعينوني عليها.
وكان للشباب نصيبهم من قدر المعالي؛ فقد جعل الاسلام قدر المرء بأصغريه قلبه ولسانه ان قال قال ببيان وان صال صال بجنان، وقد روي في كتاب المستظرف أن الحسن بن الفضل دخل على الخليفة وعنده كثير من أهل العلم، فأحب الحسن أن يتكلم فزجره الخليفة وقال: صبي وتتكلم في هذا المقام؟ فقال الحسن: يا أمير المؤمنين ان كنت صبيا فلست بأصغر من هدهد سليمان، ولا أنت بأكبر من سليمان حين قال له الهدهد: أحطت بما لم تحط به، ثم قال: ألم تر أن الله فهم الحكم سليمان ولوكان الامر بالكبر لكان داود أولى.
أما العلماء فالآن تسبقهم درجاتهم وألقابهم، وقد كان العالم من قبل تسبقه أعماله، فيرحل شهورا في طلب العلم حرصا على الاحاطة وجمع المعلومات، والان في بلاد الغرب يحرصون على التوثيق وتدوين النصوص والمراجع ويحذرون من السرقة الاكاديمية، سنة وقواعد وضعها علماء المسلمين منذ قرون في الجرح والتعديل ليس فقط في علوم الرجال والسنة النبوية، وانما جميع العلوم بحرصهم على نسبة العلوم والاخبار الى أهلها.
وبينما علماء الالقاب اليوم تبع للسلطان مقرون أو مزينون أوساكتون عن حق؛ كان علماء الامس كالعز بن عبد السلام دولة في عالم وشعبا في رجل، فلما أخرجه الخليفة المملوكي من أرض مصر لمخالفته خرجت الفسطاط كلها في ركاب عالمها، فما كان من الخليفة الا ان قال أرجعوا لنا العالم وشعبنا فلم يعد هناك من نحكم.
وبينما علماء اليوم يسعون للمنصب والجاه والاثراء وما يميزهم عن بقية الناس، كان فقيه المدينة في زمن ابي جعفر المنصور يرفض أعطياته التي رآها سببا في استدراجه، فلما دخل ابو جعفر مجلسه وكان مادا قدمه التعبة ما عدل في هيئته ولا أسرف في الترحيب به، فلما فرغ من مجلس العلم استبقاه ابوجعفر وعرض عليه خمسة الاف درهم فرفضها الفقيه، فلما لامه أصحابه قال من يمد رجله لا يمد يده فلما وصل خبره اباجعفر قال أما والله لوكان أخذها لقتلته، وكان علم البارحة سببا في ادراك التقصير والحرص على المزيد، وفي هذا قال الشافعي من لقب بمجدد قرنه: ما بلغت ما بلغت الا بقدر علمي، ولوبلغت بقدر جهلي لطاولت السماء.
حتى العلم نفسه كان عربيا تنهله الدنيا كلها من حواضر بغداد والكوفة والبصرة ودمشق والاندلس، ونحن الان لا نحصل الالقاب ولا الاعتراف والدرجات العلمية ولا القدر في الاوساط الاكاديمية الا اذا كانت شهاداتنا من بلاد الغرب، حتى في الرسائل الاكاديمية تستطيع ان تشكر من تريد وتقر بالفضل لمن تريد ولا تستطيع أن تكتب الحمد لله أن يسر لك تحصيل هذا العلم، فهذا لا يتفق مع الاعراف الاكاديمية الغربية التي جعلتنا نتبع عرف قيصر في بلاد قيصر وعلوم قومه، ونترك ما لله في بلادنا وعلومنا ولغتنا لنحصل ألقابا وشهادات تظل جوفاء اذا اتبعت نهج قيصر، وتمتلئ باتباع منهج أن «سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم».
ربما كنا في عالمنا العربي بحاجة الى استحداث ألقاب جديدة تذكر أصحاب الالقاب بإنسانيتهم، وتحكم على ألقابهم بقدر أعمالهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى