سلطان الجماهير / يوسف القرشي

سلطان الجماهير

في أوقات الأزمات التي تعصف بالمجتمع أو بجزء من أجزاءه تبدو منظومة التأثير والـتأثر بين الجمهور والمثقف معكوسة بشكل ملحوظ على عكس ما يُتوقع من تلك ” النخبة ” والتي تَعتبر نفسها قائدة للشارع لا مقودة من قبله ، ذلك أن معظم المثقفين يتميزون بحسابات معقدة للمصالح والمفاسد ؛ فقد يعتبر المثقف إدلاءه برأي يتوافق مع آراء متابعيه – حتى لو لم يكن صادقاً مع نفسه أو مع ما ربى عليه الجمهور – أقل خطراً من أن يفقد مجموعة كبيرة من المتابعين ، وبالتالي يخسر المثقف قدرته على التأثير .

نرى هذا كثيرا في صحفنا وشاشاتنا ، والأمثلة أكثر من أن تعد وأن تحصى ، إلا أن ما يستحق الدراسة فعلا هو سلطة الجماهير على النخبة ، حتى لو كان هذا التأثير نابعاً من وعيٍ بنته النخبة بنفسها ، ودعمت أساساته وسائل إعلامها و شركاتها ، خاصة وأن النخب المتأثرة : دينية وعلمية واقتصادية وسياسية .

من أكثر الكتب التي يتفاخر المثقفون بقراءتها في بداية طريقهم كتاب ( سيكولوجية الجماهير ) لجوستاف لوبون ، ويعتبرونه حدا فاصلاً بين أولئك الذين يفكرون مع ” القطيع ” و ” العوام ” وبين المفكر الحر الذي يتقلب في جنات التحرر من كل قيود المجتمع .

الغريب أن لوبون يشرح وبشكل واضح كيف أن العقل الجمعي أو “الجماهيري ” لا يفكر بالطريقة المركبة أو المنطقية التي يفكر بها العقل المنفرد ، بل هو مثل عقل الصغير ؛ لا يتأثر بشيء كما العاطفة و قد ينفعل للحركة من خلال معلومات غير مؤكدة بل ومكذوبة ، بل إن من الممكن للعقل الجمعي أن يتحرك بتلك الطريقة البدائية حتى لو كان أفراد المجموع على مستوى عال جدا من الذكاء والعقلانية والمنطقية ، لإن عقلهم الجمعي ما زال ولن يبرح بدائياً متحركاً بالعواطف والمعلومات غير المؤكدة والأفعال المائلة للحلول السريعة .

بعد كل هذه المقدمة الطللية عن ” سيكولوجية الجماهير ” يجدر بنا أن نتساءل : كيف يسمح المثقفون لأنفسهم أن يقعوا تحت سلطة العقل الجمعي البدائي للجماهير ، وهم يعرفون حاله ومآله ؟ وكيف لا يشكلون عقلاً نخبوياً رافضاً لهذا الانحدار المريع في مستوى ” النخبوية ” إن صح التعبير ؟

والواقع أن ما بين المثقفين قبل كل شيء : حرب لتحصيل الولاءات من الناس لأفكارهم ومناهجهم ، وهذه الحرب لا تُكسب بالأفكار الصحيحة أو المناهج السليمة ، بل بكمية وافرة من التأثير على العقل الجمعي والذي يؤثر فيه أكثر من أي شيء التكرار الذي لا تهم صحته والعواطف التي لا يهم زيفها ، أما التزلج على موجة الجمهور إذا هاج تكتيك مهم لمن يريد الركوب فوقه إذا استراح .

وهذا يفسر بشكل جزئي غياب الإنصاف في مثل هذه الأوقات العصيبة ، فالإنصاف يعتبر بين الناس نصف حل ، أو تمييعاً للقضية ، أو تخاذلاً عن الوقوف في طرف الحق ، أما الحق كل الحق فهو في تسطيح القضايا واعطائها أحكاماً عمومية مريحة للعقل من التفكير ؛ فهؤلاء : عملاء ، وأولئك : منافقون ، و نحن : أبطال مدافعون عن الحق الذي دونه الباطل .

وظيفة المثقف والعالم والمفكر لا يجب أن تكون اللهاث وراء المتابعين ، أو المشاركة في مسابقة يحصل الفوز فيها بتصويت أكبر عدد له لتراه اللجنة في بيروت!! وإلا فلنسلم راية التأثير للمغنين فهم أكثر من يتابعهم الناس ويقلدونهم .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى