سواليف
هل سألت يوما لماذا قد يقتل إنسان، إنسانا آخر أو يقتل شقيق شقيقه أو ابن أبيه أو حتى أمه؟
قد تبرر #جريمة من هذا النوع ويعرف دافعها: ثورة غضب أو نقص مال أو خلاف على ميراث، أو #ثأر أو #خيانة، ولكن هل سمعت عن إنسان فقد حياته بسبب #قاتل لا يعرفه وليس على خلاف معه، ولم يسبق أن رآه أو سمع صوته حتى، ومع فقاتله يقتله عن سابق تصور وتصميم وبدم بارد.
ففي 2011 قتل عدد من سائقي #سيارات_الأجرة في ظروف غامضة بالعاصمة اللبنانية #بيروت، وغالبا ما تُترك جثثهم ليُعثر عليها، وعاشت المدينة وأهلها في حالة من الذعر، لأن المجرم في رحلة بحث دائمة عن ضحيته التالية.
فمن هو المجرم؟ وهل يبحث عن الشهرة؟ وما دافعه؟ ولماذا يستهدف سائقي سيارات الأجرة؟
تلك جريمة سنعرف حكايتها في الفيلم الوثائقي “سفاح التاكسي” التي أنتجته الجزيرة الوثائقية، وسنحاول سبر أغوار جريمة هزت الشارع اللبناني عام 2011 ومحاولة فهم ذهن سفاح أرعب بيروت.
“لا يمكن لأحد الجزم أن السلوك الجُرمي يخلق مع الإنسان”
في علم الإجرام الحديث، لا يكتفى بالنظر إلى الأدلة وحدها. فمن أجل العثور على مجرم ما، بات من الضروري فهم العقلية الإجرامية، لذا نشأ علم النفس الجنائي أو التنميط الذي يقدمه خبراء أو علماء النفس الجنائي كجزء لا يتجزأ من التحقيق.
يقول الدكتور أنطون سعد اختصاصي في علم الدماغ السلوكي: لا يمكن لأحد الجزم أن السلوك الجُرمي يخلق مع الإنسان، أو يكتسبه في حياته، فالطبيعة البشرية شديدة التعقيد لدرجة أن الوجهين يجوزان لصناعة شخصية إنسان يكون مسالما أو مجرما.
ويقسم قاضي التحقيق اللبناني بيتر جيرمانوس القتلة إلى نوعين. إذ يقول: هناك نوعين من القتلة، الأول يتعرض لحادث يؤثر على نفسيته فيَقتل مباشرة ثم ينصدم بالتداعيات، والآخر هو الأخطر لأنه يخطط لجريمته، وبالتالي يدرس خطواته في ارتكاب الجريمة والتعامل مع التداعيات.
جرائم لبنان.. معدل يماثل بؤر الجرائم الأمريكية
لعل أخطر أنواع الجرائم هي المتسلسلة أو الجريمة المنظمة، وهذه الجريمة هي التي أوجدت ما يسمى الـ”بروفايلنغ” (Profiling) في علم الجريمة، أي دراسة سلوكيات المجرم وتحليلها لفهم أسباب ارتكابه للجرم.
ويرى الدكتور عمر نشابة المتخصص في العدالة الجنائية أن هناك بصمة معينة لكل جريمة وبصمة أيضا للجاني، مع بقاء نسبة غموض في هذه البصمة، ولهذا ينبغي أن نطرح احتمالات عدة، وكلما كانت البصمة أكثر وضوحا تضاءلت هذه الاحتمالات.
نعود إلى أرض الواقع، إذ تقول إحدى المحطات الإذاعية اللبنانية: لا يكاد يمر أسبوع من أيام سنة 2011 دون وقوع جريمة أو أكثر في لبنان، فالتقارير الأمنية سجلت وقوع أكثر من 20 عملية قتل هذا العام، ومعدل الجرائم ارتفع بشكل يماثل ما يحصل في بؤر الجرائم في أميركا.
وفي خضم اندلاع الأحداث في سوريا، كان لافتا وقوع سلسلة جرائم هزت لبنان، إذ قتل 11 ضحية في منطقة واحدة، وخلال مدة لا تتجاوز 4 أشهر، فكل الضحايا رجال وجميعهم قتلوا بذات الطريقة، وهذه الجريمة نادرة ليس فقط في لبنان، بل بالعالم كله، وأول مرة يشهد لبنان مثلها.
طلقة خلف الأذن.. تفاصيل الجريمة التي أفلت صاحبها
في الساعة العاشرة ليلا، كان سائق سيارة أجرة يسير على خط منطقة الدورة إحدى ضواحي بيروت، فاستوقفه ركاب الساعات المتأخرة ليوصلهم إلى منطقة بعيدة خارج العاصمة، وقد عرضوا عليه مبلغا كبيرا كي يوافق، ولم تكد تمر 10 دقائق على الرحلة حتى طلب أحدهم التوقف لقضاء حاجته، وعند التوقف أطلق أحد الركاب النار على السائق.
نجا السائق رغم أنه غاب عن الوعي، وظن الجناة أنه قتل، ولكن لحسن حظه أنه نجا لأن الطلق الناري دخل من الخلف ولم تكن الإصابة قاتلة.
وفي اليوم التالي عثر على السائق مرميا في أحد الشوارع، وكان غارقا في دمائه بعد أن أصيب برصاصة خلف الأذن، فنقل إلى المستشفى في حالة غيبوبة، وبعد يوم واحد عثرت القوى الأمنية على سيارة أجرة مركونة إلى جانب الطريق، وكانت هناك بقع دماء داخل السيارة التي سرقت محتوياتها، ولم تعثر القوى الأمنية على أي بصمات أو أدلة ترشدهم إلى هوية القاتل. غير أن الذي استوقف المحققين هو عدم وجود مرآة السيارة الأمامية.
وبعد 6 أيام وقعت جريمة جديدة في منطقة مختلفة، وكان الضحية سائق سيارة أجرة كذلك، وكان مصابا برصاصة خلف الأذن، وكانت الإصابة قاتلة هذه المرة. ويكشف الصحفي رضوان مرتضى المتخصص في الشؤون الأمنية، أنه عثر على الضحية مرميا في أحد الأزقة ومصابا بطلقة واحدة أنهت حياته، وعثر معه على مبلغ من المال، ولكن أوراقه الثبوتية سرقت. وذكر التقرير الأمني الأولي أنه عثر على جثة مجهولة مصابة بطلق ناري.
ويبدو أن القاتل -بحسب الدكتور نشابة- ظن أنه اتخذ كل الاحتياطات لعدم اكتشافها، ولهذا كان مرتاحا لعدم التعرف عليه، وأصبحت عملية ارتكابه جريمة ثانية وثالثة أمرا سهلا.
لغز الضحية الثالثة.. بحر من الإرباك والضياع يلف التحقيق
بعد أيام وقعت الجريمة الثالثة، فقد قتل سائق سيارة أجرة ثالث بالطريقة نفسها، بطلق ناري خلف الأذن، وعثر عليه مرميا في أحد الشوارع الفرعية، وعثر على السيارة في مكان آخر، لتبدأ عمليات الربط، فالطريقة واحدة والضحايا من نفس الفئة الاجتماعية، وهذا يعني أن القاتل واحد.
ويخبرنا القاضي جرمانوس أن هناك حساسية طائفية محفوظة في الذاكرة الاجتماعية اللبنانية، فعندما يُقتل شخص من ديانة معينة في منطقة من غير ديانته، يتأهب الجميع مباشرة ويبدأ البحث في أسباب الجريمة إن كان لديها أي جانب طائفي أو مذهبي.
ثلاث ضحايا (قتيلان وجريح بين الحياة والموت) في غضون 6 أيام، كلهم سائقو أجرة، ورصاصات قاتلة خلف الأذن، ولا بصمات، كل هذا صعّب مهمة المحققين، فأداة الجريمة مسدس والدافع مجهول، حتى اعتقدت الأجهزة أنها أمام عمل إرهابي قد تكون دوافعه إرهابية، ولا يزال الجميع ينتظر أن يصحو الشاهد الوحيد الغارق في غيبوبته، لأن اللغز لن يُحل من دونه، وخاصة في غياب البصمات والأدلة الحسية.
وبذلك سيطرت الحيرة على المحققين، لأنهم لم يستطيعوا التوصل لأي أدلة كافية لكشف القاتل، ولا تعرف دوافعه بعد، ونظرا لأهمية الحادثة تأسست وحدة تحقيق خاصة لمتابعة هذا النوع من الجرائم.
فنتائج تحليل الحمض النووي لعينات الدم التي رفعت من مسرح الجريمة الأولى كانت لأكثر من شخص، فإضافة إلى دم السائق كانت هناك دماء مجهولة. وقد اعتبر هذا الاكتشاف رأس الخيط الذي قد يرشد المحققين إلى القاتل، لكن هذه العينة لا تفيد في التحقيق إلا في حال وجود مشتبه بهم، على عكس البصمات التي يمكن لأجهزة الدولة اللبنانية مقارنتها مع قاعدة بيانات قد توصلهم إلى الفاعل.
ويقول داني الزعني مفوض الحكومة المعاون لدى المحكمة العسكرية في لبنان: لكي نحدد كيف حصلت الجريمة، علينا أن نحصل على تقرير طبيب شرعي متكامل يتضمن جانبين: الأول له علاقة بموقع الجريمة (رأي الطبيب عن الجثة بمسرح الجريمة)، والآخر بعد تشريح الجثة، ويظهر التشريح تفاصيل كثيرة متعلقة بالجريمة.
موقع الجريمة.. مسرح جنائي خال من الأدلة
حرص الفاعل على مسح بصماته بعد ارتكابه جريمته، وإبعاد السيارة عن جثة صاحبها، فقد كان يرمي الجثة في مكان والسيارة يركنها في مكان آخر، وكل ما توصل له المحققون أنه يقتل برصاصة من الخلف وتحديدا خلف الأذن، والرابط الوحيد بين الجرائم الثلاث هو عيار الرصاصة المستخدمة وقادت هذه الرصاصة إلى تحديد سلاح الجريمة وهو مسدس من عيار 7 مليمترات.
ويشرح الزعني أنه بعد الانتهاء من مسرح الجريمة، يتخذ القضاء عدة خطوات تبين فعلا ما حصل كإفادة شهود ونتائج تحليل العينات والاتصالات المسجلة وتفريغ محتوى الكاميرات، إضافة إلى الأدلة الأولية التي جمعت من مسرح الجريمة الذي هو أصل الحكاية.
وتقوم العلوم الجنائية على جمع جميع المعطيات المتعلقة بالجريمة، من رفع أدلة وتحليل ودراسة مسرح الجريمة، لتحديد سلوكيات القاتل ودوافعه، وذلك يدخل المحققين إلى عقل القاتل، وهذا ما يمنحهم فرصة التقدم عليه بخطوة قد تكون كافية لإلقاء القبض عليه.
وبحسب الدكتور سعد المتخصص في علم الدماغ السلوكي، فإن الحدث الجرمي وقع في الليل ووسط غياب الشهود وعلى المحققين الوصول للدوافع والأسباب، ومن معلومات قليلة متوفرة وربطها بأخرى قديمة، عليهم رسم سيناريو لجريمة لا شهود عليها والوصول إلى أقرب تصور للحقيقة.
ويروي المقدم جوزيف مسلّم رئيس شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي اللبناني، كيف بدأ المحققون بتركيب الرواية فصلا فصلا، حتى تكتمل الصورة لديهم، ويطرحون مواصفات المشتبه به ويضعون عدة فرضيات، فالقصة أقرب إلى الأحجية التي تحتاج لفريق عمل متكامل ومتخصص، ومهام كل فرد فيه معروفة للوصول إلى نتيجة.
ازدادت القضية تعقيدا، وكان سبب ذلك جنسيات الضحايا، فهم لبناني وسوري وإيراني، وكل منهم ولد بمنطقة بعيدة نسبيا عن الآخر، وهذا ما أبعد فرضية الجريمة العنصرية، كما صعب تحديد هوية القاتل، لذا غرق المحققون في بحر من الاحتمالات، ليبقى القاسم المشترك سيارة أجرة ورصاصة خلف الأذن.
“افتراس الذئب”.. وقاحة قاتل محترف متدرب
ويصف القاضي جرمانوس القاتل قاتلا: إنه محترف وذكي، وعلى علم بالتقنيات المستخدمة، وخضع لتدريبات معينة أو لديه المعلومات المطلوبة، لذا فهو يتصرف بطريقة حذرة ويتحرك بمناطق نائية وبعيدة عن أعين الناس والكاميرات، ولا يترك خلفه أي دليل، وهذا أمر صعب.
ولم يعد بوسع المحققين الانتظار لأن الأدلة لم تكن كافية لتحديد الفاعل، وعامل الوقت ليس في صالحهم، وكل تأخير يمنح القاتل فرصة جديدة لاقتناص ضحية أخرى، وكان لا بد من إيجاد طريقة، لذا حاول المحققون تحديد وجهة القاتل بعد ترك سيارات الضحايا في مناطق متباعدة نسبيا كنمط في السلوك الإجرامي للقاتل، وقد فهمه المحققون شيئا فشيئا.
هذا السلوك دفع القاضي جرمانوس للتحليل بأن القاتل، كان يرتكب جرائمه في دائرة سكنه المباشر، أي أنه يضع في الحسبان عودته سيرا على الأقدام إلى منزله، وهذه طريقة افتراس “الذئب لفريسته”.
وكان القاتل يحرص على أخذ الأوراق الثبوتية للضحايا حتى يعرقل سير التحقيق، على الرغم من بقاء بعض الأموال في جيوب الضحايا، مما أثار استغراب المحققين الذين طرحوا عدة أسئلة بينها: هل كان يقتل بدافع السرقة؟
ويجيب الدكتور عمر نشابة المتخصص في العدالة الجنائية، أن الاستنتاج السائد كان أن القاتل يستهدف سائقي الأجرة لسبب معين مرتبط بهوس، ولكن هل كان هذا هو الحال؟ فالقاتل يصعد في سيارة الأجرة ليراقب السائق جيدا، قبل ارتكاب الجريمة، وهذا ما يسمح له باستخدام مسدسه وإطلاق النار من الخلف، دون أن يكون هناك اتصال بالعينين أو أي مواجهة مع الضحية.
وعلى عكس نشابة، يجزم القاضي جرمانوس بأن القاتل ليس مجنونا، بل مدرك ويعلم ماذا يفعل، ومحترف يقتل ويخفي آثار جريمته ثم يقترف جريمة أخرى، ويمثل خطرا على المجتمع. ولم يكد يمر شهر على جريمته الأولى، إذ بدا وقحا يتصرف بثقة مطلقة وكأن أحدا لم يتمكن من الوصول إليه ليرتكب جريمة تلو الأخرى بجرأة كبيرة وفي تحد واضح للمحققين.
إحراق السيارة.. عنصر جديد يربك المحققين
في الجريمة الجديدة أضيف عنصر النار أيضا، فقد أحرق القاتل هذه المرة سيارة الضحية، فهل أراد إخفاء أي دليل محتمل أم أنه يتلاعب بالمحققين؟
يرى القاضي جرمانوس أن إحراق السيارة هو إحدى الأدوات لطمس الأدلة وأهمها الحمض النووي وبصمات القاتل، فالمحققون أمام شخص يخطط ويقتل، ثم يمسح آثار جريمته وينظف مسرحها.
ويفسر الدكتور سعد تصرفات القاتل وارتكابه جرائم متكررة بما يعني أنه حصل على مكافأة في الجريمة السابقة، ويتحول تكرار هذا الفعل إلى إدمان الشخص الذي يبدأ بكمية قليلة من المخدرات، ثم تزيد لأن هذه الكمية لم تعد كافية ليشعر المدمن بنفس النشوة، ولهذا يزيد الكميات وينوع في المواد المخدرة.
ولكن الدكتور نشابة يشير إلى أمر غريب، وهو أنه أزال الجثة من داخل السيارة ثم أحرقها، وهذا لا يدل على تفكير جنائي متقدم لإخفاء معالم الجريمة.
ومما زاد من تعقيد الجريمة –بحسب الصحفي رضوان مرتضى- أنه “عندما يبدأ التحقيق بجريمة قتل، يركز المحققون على الدافع، وهل هو جنسي أم مالي أم سياسي أم طائفي أم إرهابي؟ وفي هذه الجريمة كانت جميع الاحتمالات موجودة”.
من أجل ذلك، أعلنت حالة استنفار أمني في المدينة، وأقيمت حواجز تفتيش بحثا عن القاتل، ولكن من دون جدوى، وزاد ذلك من حالة الهلع وازدادت الحاجة للشاهد القابع في حالة غيبوبة، وكان السبيل الوحيد للمحققين لكشف الجريمة، فالقاتل لا يزال طليقا وكل سائق أجرة هدف محتمل.
استيقاظ السائق.. مفاجأة في ليلة الجريمة الأولى
في هذه الأثناء، استيقظ الشاهد الوحيد من غيبوبته ليكشف ما لم يكن متوقعا. وكشف أن محاولة قتله نفذها شخصان وليس شخصا واحدا، أحدهما جلس في المقعد الأمامي والآخر في الخلفي، وشك أنهما يريدان قتله حينما انتبه أن الجالس في المقعد الخلفي يشهر مسدسه، فتعارك معه وأدى العراك إلى جرحه وتطاير دمه في السيارة.
وقد أطلق النار من المسدس بطريقة الخطأ وظنا أنه قتل ورمياه من السيارة، ولكن إصابته لم تكن مميتة، وهو من أعطى أوصافا تشبيهية للمشتبه بهما بتنفيذ عمليات القتل.
كشف السائق أن الرجلين في الأربعين من عمرهما، وسرقا منه 900 دولار أمريكي، كانت في محفظته مع أوراقه الثبوتية، وعندما عرض عليه 5 أشخاص مشتبه بهم مباشرة اختار أحد الأشخاص من بينهم، وزاد أنه هو أحد الذين صعدا معي في السيارة وأطلقا النار على رأسه واللافت أن هذا الرجل كان متهما بقضية أخرى.
وعلى الفور أوقف المشتبه فيه على ذمة التحقيق، وأخذت عينة منه لإجراء فحص الحمض النووي وذلك لمقارنتها مع عينة الدماء التي عثر عليها في مسرح الجريمة، ولكن العينات لم تتطابق ولم يعترف الموقوف بارتكابه الجريمة وظن المحققون أن عينة الدماء تعود لشريكه وأنهم قبضوا على أحد القاتلين.
“لا يستطيع أحد وصف الحادث كما وقع”.. عودة إلى الصفر
بينما تجري التحقيقات وقعت جريمة خامسة أعادت التحقيقات لنقطة الصفر، وبرأت المشتبه به الموقوف. ويشرح القاضي جرمانوس، كيف تطور السلوك الجرمي للقاتل إذ كان سائق الأجرة نائما في السيارة، فأيقظه ثم قتله ولم يسرقه.
يقول القاضي: كنا نظن أن هذه الأمور لا تجري في لبنان، فالشعب اللبناني انفعالي، وقد يقتل عندما يكون هناك إشكال أو تضارب أو تبادل شتائم، ولكن هذا النوع وهذه الدرجة من الإجرام غير مسبوق.
بدأ أسلوب المجرم يتكشف مع الوقت، فالمستهدفون هم سائقو الأجرة، ويقع بالمنطقة الجغرافية نفسها، وينفذ بالمسدس المستخدم نفسه، وإطلاق النار من الخلف على مستوى الأذن نفسه، فالقاتل المتسلسل كأي قاتل لديه أسلوب ولا يغيره مع تكرار جرائمه.
فهذه الجرائم عالية الخطورة وتهدد السلم الأهلي في البلد، ولهذا استنفرت القوى الأمنية بشكل كبير. وقد أعادت الجريمة الخامسة خلط الأوراق، وأُربك المحققون بعد ظنهم أنهم أمسكوا بطرف الخيط. ولكن كيف يحدث أن يتعرف الشاهد على القاتل، ثم تحدث جريمة مشابهة لسابقاتها؟
يقول الدكتور نشابة: الموقوف أو المتهم أو الشاهد قد لا يدلي بإفادة حقيقية، وفي الوقت نفسه قد لا تكون إفادة كاذبة.
وفي نفس السياق يؤكد الدكتور سعد قائلا: لا يستطيع أحد وصف الحدث كما وقع بشكل مفصل، وحتى شاهد العيان، لأنه سيكون تحت تأثير انفعالات شخصية، وتكون رؤيته غير واضحة بالنسبة للحدث الذي جرى أمام عينيه.
سائقون برتبة رجال أمن.. تغييرات في خطة الفريقين
تحولت الجرائم إلى حديث الساعة لدى السائقين العموميين الذين توقفوا عن العمل في هذه المنطقة بعد سماعهم أخبار عن جرائم شبه يومية تستهدفهم، فعمت حالة من الهلع وفشلت القوى الأمنية في تهدئة مخاوف الناس، فانتقل المحققون إلى العمل الاستخباري، وأحيط أسلوب العمل الجديد بسرية مطلقة، بعد أن اعتبرت هذه الجرائم تمس بأمن الدولة، فالقاتلان انتقلا لاستهداف الركاب بعدما كانوا يقتنصون السائقين فقط.
لقد غيرا أسلوبهما في القتل، فبعد استهداف السائق ينتحل أحدهما صفة سائق أجرة ويبحث رفقة زميله عن طريدة، وبسبب خطورة الموقف وتزايد الجرائم انتحل رجال قوى الأمن صفة سائقين عموميين بحثا عن المشتبه بهما.
بلغ عدد الجرائم 9 حتى الآن، غير أن المحققين واصلوا عملهم، وتحول المخبرون إلى سائقي أجرة، واستبدلوا سياراتهم بسيارات أجرة في خطوة غير مسبوقة، وفرضوا طوقا أمنيا على منطقة تزيد مساحتها عن 14 كيلومترا مربعا، واشتبه المحققون بثلاثة أحياء أخضعت لمراقبة أمنية مشددة، وأصبح كل ساكن في هذه الأحياء بدائرة الشبهة، بعد أن رصدت حركات مشبوهة فيها ليلا.
ويلفت الدكتور نشابة المتخصص في العدالة الجنائية إلى احتمال وجود خطة سابقة وضعها القاتلان لاستهداف ضحاياهما، وقد يكونان استقلا سيارات أجرة ولم يرتكبا أي جريمة، فعندما تأكدا أن الظروف مواتية لهما لارتكاب الجريمة فعلا.
ورغم كل الإجراءات الأمنية المشددة والأساليب الاستخباراتية والمراقبة اللصيقة، فإن القاتلين استطاعا تنفيذ عملية مزدوجة وبالطريقة نفسها، قتل السائق ثم قتل راكب اختاره القدر، وكان عسكريا في الجيش، سلباه كل ما يملك، ثم قتله أحدهما ورماه في الشارع.
ويقول القاضي صقر صقر مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، إن مقتل هذا العسكري، استدعى تدخلا من محكمة خاصة في لبنان تدعى “المحكمة العسكرية”، وتمتد صلاحياتها للتحقيق في أي جريمة يرتكبها عنصر في الجيش أو ترتكب بحقه، ويحق لها متابعة التحقيقات مع المدنيين الذين اعتدوا على أي عسكري أو ضابط في الجيش.
هاتف العسكري.. غلطة تمثل مفتاح حل الجريمة المعقدة
كان من بين المقتنيات التي سرقها القاتل من العسكري هاتف خلوي، وباعه إلى أحد جيرانه، وكان هذا الهاتف هو مفتاح كشف الجريمة الشائكة.
يقول الصحفي رضوان مرتضى: وضع نجل هذا الجار شريحة في الهاتف الخليوي، فتبين للمحققين أن الهاتف المسروق يعمل، فحُددت المنطقة والشخص الحامل لهذا الهاتف، فقاموا بدهم الشقة وألقي القبض على والد الطفل الذي اعترف مباشرة أنه اشترى الهاتف.
وفي فجر أحد الأيام دهمت الشقة وألقي القبض على 5 أشقاء، وعثر على المسدس المستخدم في الجرائم، لينهار الموقوفون ويعترفوا بجرائمهم.
وعن الجريمة يتحدث وزير الداخلية مروان شربل في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 قائلا: منذ 5 أشهر ارتكبت 11 عملية قتل وأصيب الجميع بالرأس وبرصاصة واحدة، وقد جرى الدهم فجرا وصادرنا المسدس المستخدم وتأكدنا من أن الرصاص الذي قتل به الضحايا تابع لهذا المسدس، وأكد أنه فخور بالإنجاز الذي حققته القوى الأمنية.
ويروي الصحفي مرتضى مشاهداته لشقة المتهمين بعد الدهم وإلقاء القوى الأمنية القبض عليهم، إذ وجد قفصا للعصافير وصور وأيقونات دينية، ثم سأل نفسه: ما الذي يدفع شخص لقتل 11 ضحية من أجل مبلغ قليل من المال لا يكفي مصروف يوم؟ وهل هناك دافع آخر أو نقمة على المجتمع؟
وخلال التحقيق اعترف المتهمان بكل تفاصيل جرائمهما وكيف كانا يتحركان، وخلال التحقيق تعرف المحققون أكثر على الشخصين وسلوكهما، وهذا ما زاد من استثنائية الجريمة.
وتبين لاحقا –بحسب الدكتور نشابة- أن القاتل كان برفقة شقيقه في كافة الجرائم وهذا يساعد بتكوين مفهوم التخبط بين الشجاعة والخوف، وأنه ربما كان الجاني يريد إثبات أنه يستطيع القيام بهذه الجرائم أمام شقيقه وأمام نفسه، بينما لم يستطع مواجهة ضحاياه، وكان يطلق النار عليهم من الخلف.
“لم نرتكب أي مخالفة مرورية”.. ادعاءات مثالية تكذبها الأدلة
يقول شقيق القاتل: ما يحصل غير طبيعي، أحمل الجنسية السويدية وأخي يحمل الجنسية البولندية، وقد أقمنا 20 عاما في السويد وبولندا ولم نرتكب أي مخالفة مرورية، وفجأة نتهم بقتل 20 شخصا، أخي كان يتاجر بالسيارات وأرسل لهم سيارات من الخارج، ولم يدفعوا ثمنها، وهو يملك أوراقا وإثباتات على كلامه، وعندما تمنع شابان عن الدفع قتلهما، وأما العسكري الذي قتل فكان ضحية ولا ذنب له، وأنا بريء وليس لي علاقة بكل التهم التي وجهت لي.
وفور توقيفهما، نفى المجرمان ارتكاب الجرائم، لكن عندما ووجها بالأدلة والسلاح المضبوط في منزلهما فلم يجدا أي خيار أمامهما سوى الاعتراف.
وقدم المتهمان للمحققين أكثر من المتوقع، واعترفا بارتكاب جريمتي قتل وسرقة قيدتا ضد مجهول، إذ قتلا امرأة بعد سرقة ذهبها من منزلها، كما قتلا سائق أجرة سوري الجنسية بسبب غشه لهما بعد أن كلفاه ببيع المصوغات في سوريا.
ويلخص الدكتور أنطوان سعد المختص في علم الدماغ السلوكي سلوك القاتلين قائلا: لا يستطيع القاتل شرح أسباب فعلته ولماذا ارتكب جرائمه، والمتهمان إما أنهما قد مرّا بتجارب صعبة ومعاناة كبيرة، وهذا ما جعلهما ناقمين على المجتمع ولديهما صراع نفسي داخلي، ولهذا يصبحان مستعدين للقيام بأي عمل للتعويض عن هذا النقص، وعندما نصل لدرجة أن أخوين من نفس البيئة يقرران ارتكاب هذا العدد من الجرائم، فهذا يعني أننا أمام حالة مرضية تتطلب تدخلا من أخصائيين في علم النفس، وهذا التدخل لو حصل مبكرا لما كنا وصلنا إلى هنا.
“أنا كالملاك”.. عقلية السارق الذي أصبح قاتلا متسلسلا
يبقى السؤال المطروح هو: هل كان هذا المجرمان قاتلين متسلسلين؟
يجزم الصحفي رضوان مرتضى بأنهما ليسا بذلك، لأن القاتل المتسلسل يكون لديه دافع نفسي. وفي المقابل، يمكن القول إنهم قتلة متسلسلون، لأنهم يقتلون بنفس الطريقة ويستخدمون السلاح نفسه وتكون الفئة المستهدفة واحدة، ورغم وصفهما إعلاميا بأنهما قاتلان متسلسلان لزيادة عامل الإثارة والمتابعة على الموضوع، فإنهما كانا يقتلان بهدف السرقة والمال، أي أنه ليس هناك دافع نفسي خلف جرائمهما.
بعد الحكم عليهما بالسجن، يقبع الأخوان القاتلان في سجن رومية أكبر السجون اللبنانية
وفي هذا السياق يؤكد الدكتور عمر نشابة المتخصص في العدالة الجنائية أن التغطية الإعلامية والتشديد على القاتل المتسلسل، شجع القاتل التسلسلي على الاستمرار، والإعلام ليس متهما لأنه يقوم بوظيفته بمتابعة هذه القضية، ولكن تسليط الضوء على القاتل يجعله شخصا مشهورا ومعروفا، وقد يكون أحيانا جزءا من الدوافع الجنائية.
ويختم القاضي بيتر جرمانوس بقصة محزنة وصادمة في الوقت نفسه، إذ يقول: التقيت بعدد كبير من الأرامل والأشخاص الذين فقدوا أعزاء وأقارب بسبب هذه الجرائم، من أجل التعرف على حجم المأساة التي خلفها هذا القاتل، الأمر الذي دفعني لسؤاله: كيف تستطيع النوم؟ لأن الجريمة تسببت لي بالأرق ولم يكن بمقدوري النوم جيدا.
فكان جواب القاتل صادما: أنا كالملاك.
يقبع القاتلان في سجن رومية، وهو أكبر السجون اللبنانية وبعد اعترافهما في التحقيق، فقد تراجعا أمام القاضي، وأعيد فتح التحقيق من جديد.