ساديون ام مازوخيون؟

ساديون ام مازوخيون؟
جمال الدويري

اعرف ان مهنة التعليم, مهنة شاقة, ولكنها مباركة ذات رسالة نبيلة مقدّرة, وأؤكد انني شخصيا ممن ناصروا معلمي الوطن منذ سعيهم الأول للحصول على نقابتهم المهنية, وحتى الحصول على مطالباتهم بتحسين اوضاعهم المادية.
(العصا لمن عصى), علق بها احد من استهجن منشوري قبل ايام, الذي عرضت به مستاء, لصورة اثار ضربات (بربيش) على ساق طالب ابتدائي, من معلمه, لتأخره مع اخرين عن الطابور الصباحي المدرسي.
وذهب اخر في تعليق آخر للقول: كنت احترمك, ولكنني حذفت صداقتك اليوم.
ومما ادهشني اكثر بتعليقات الأصدقاء, التي فاقت المائة, ان اكثر من 95% منها ذهبت الى تحميل مسؤولية فشل العملية التربوية وسوء مخرجات التعليم لدينا, لمنع الضرب في المدارس وغياب العصا عن يد المعلم. وما زاد دهشتي ان غالبية اصحاب هذا الرأي المتطرف, هم من المتعلمين والمثقفين, الذين لم اتوقع منهم هذا الغزل بالعنف والقهر الإنساني.
يقول احدهم: عصا المعلم صنعت منا رجالا. ومع احترامي الشديد لصاحب هذه المقولة, فإنني لا اشاطره اياها, لأن التسليم بصحتها, سيلغي ما بذله هؤلاء الرجال من جهد وتعب وسهر شخصي للوصول الى النجاح والأهداف.
في حين ان الحقيقة الأكثر موضوعية ومنطقا, ان العنف, الجسدي منه والنفسي, المستخدم على الطالب, , لن ينتج الا العدوانية في الصغر والأمراض والعقد النفسية في الكبر, كما يؤكد علماء النفس والاجتماع في الغالب, وتبعا لذلك يشكل مجتمعات عليلة تعتريها النزعة للتحدي العنيف, الى جانب هرمية الرضوخ والعبودية والتسلّط والتسيّد, بالتبادل بين الأضعف والأقوى.
ومما ادهشني ايضا بغالبية التعليقات على المنشور المذكور, تناقضها مع ما نسمع ونقرأ بتكرار شبه يومي عن شجارات وعنف ودعوات قضائية تقام من اولياء امور طلاب على معلميهم, الذين اغلظوا لهم قولا او ضربا, والتي لا تتماهى مع اريحية المعلقين بمدح العصا وفعلها, بل واتخاذها وسيلة حميدة من وسائل التربية والتعليم, مما يشير الى انفصام بين القول والفعل, وبين الحديث العام, وخصوصية ان يكون الطالب المقموع المضروب, ابنا او أخا او قريبا.
العنف يستجر العنف, والقوة تستفز مثيلتها, وضرب الطالب الأضعف من معلمه الأقوى ان قبلنا به, فلا بد ان يؤسس لطبقية بغيضة تقوم على علاقة غير سوية ولا عادلة بين الرئيس والمرؤوس, في كل المجالات والأعمار, رفضتها الشرائع والقوانين السماوية والوضعية.
وبدل ان تقوم العلاقة بين المعلم وطلابه على الاحترام المتبادل والثقة والتفاهم والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة, فسوف تقوم مع العصا والتعنيف, على انعدام كل هذه القيم الطيبة, فتشوبها مشاعر الكره والثأر وتبادل جولات الانتصار للذات وكسر الآخر والمنافسة المستطيرة, بالشكل والنتائج.
وللنفسيين رأيهم الواضح بمسألة ضرب الأطفال, حيث يتحدثون عن نظرية “اختزان المشاعر” وخاصة السلبية منها, حيث يعود مستقبلا لاسقاطها على والديه او من حوله. ومن اهم أصداء ضرب الطفل عند الكبر, مشاعر الخوف العام واهتزاز الشخصية وفقدان الثقة بنفسه, الى درجة تجعله عاجزا عن الدفاع عن ذاته وحقوقه, او المبالغة بها, وتعرضه للاصابة باضطرابات نفسية وانعزالية واكتئاب, يواكبه في الشباب والرجولة المتقدمة. الى جانب تحوله لشخصية (سيكوباتية) مضطربة نفسيا, منحرفة عن السلوك السوي, تتفنن بالتلاعب بضحيتها للحصول على ما تريد, دون الشعور بالذنب.
ويفتقر السيكوباتي للضمير والقدرة على التعاطف مع الآخرين، وهو ما يجعله متلاعباً ومتقلِّباً، يتراوح بين إظهار الصفات الجيدة والسيئة حسبما تقتضي مصلحته, مع شعوره بالراحة النفسية والنصر عندما ينجح بإيذاء الآخرين.
وأخلص هنا الى أسئلة مبررة ادرك صعوبة اجاباتها: هل نحن ساديون نتلذذ بممارسة العنف على الاخرين, ونهين ونتحدى من موقع القوة والسلطة؟ وهل نحن مازوخيون ونحن نقبل العنف ونجيز الإهانة والتحدي القاهر ونحن في موقع الاستكانة والتلقي والصف الثاني على معيار الهرم السلطوي؟
ومثما يجرم علماء النفس والاجتماع تعنيف الأطفال الجسدي والمعوي ويحذرون من نتائجه, فإنهم يسوقون لبدائل انجع وأجدى بالمحصول والنتائج, وإن كانت اكثر حاجة للوقت والجهد والبذل, والملخصة بالشرح والتوضيح والتوجيه الصحي, الى التلويح بالحرمان من محببات الطفل وحجب مؤقت لبعض رغباته الشخصية ومشاركاته مع اقرانه, او التلويح بجوائز بسيطة له مما يحب, ان هو عمل كذا او امتنع عن كذا.
وبالمحصلة, فإن المرعوبين المعنَّفِين المهزومين الراضخين للعنف والإهانة, لا يبنون اوطانا ولا يستطيعون الذود عنها ومقارعة الطامعين بها, وعكس ذلك فإن أصحاب النفوس العزيزة والكرامة الشامخة والعنفوان هم افضل جنود الوطن وأكثرهم كفاءة لحمايته.
وان افضل ما اختم به, لحديث معلمنا الأول, نبي الأمة,عليه افضل الصلاة وأطيب التسليم حيث ورد عنه قوله (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزِعَ من شيء إلا شانه).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى