زلزال لبنان.. وقفة للتفكّر أردنياً (2)

زلزال لبنان.. وقفة للتفكّر أردنياً (2)
هيبة الدولة والفساد
أ. د أحمد العجلوني

تابعنا منذ يومين خطاب استقالة رئيس الوزراء اللبناني التي حملت مضامين خطيرة حول فشل الدولة وضياع هيبتها بسبب الفساد، فقد عزا مصيبة الانفجار الزلزالي التي حصلت إلى “فساد مزمن في السياسة والإدارة والدولة”، وأضاف بأن “منظومة الفساد متجذرة في كل مفاصل الدولة وهي أكبر من الدولة”، وأن
“الخطر كبير من مصائب أخرى بحماية الطبقة التي تتحكم بمصير البلد وتعيش على الفتن وتتاجر بدماء الناس”.
لقد نجم عن حالة الفساد المستشرية في لبنان انسداد الآفاق السياسية والاقتصادية أمام الشعب اللبناني الشقيق الذي فقد الثقة بالدولة. الأمر الذي أدى إلى كفر الكثيرين بمفهوم الدولة الوطنية لما رأوه من فساد الطبقة الحاكمة بسلطاتها الثلاث الذي تراكم خلال العقود الثلاثة الأخيرة! ومن أغرب مشاهد عدم الثقة بالدولة طلب كافة رؤساء الوزراء السابقين بتحقيق دولي وعدم الثقة بالحكومة الحالية! كما كان من أسوأ الصور الناتجة عن ذلك استقبال الرئيس الفرنسي استقبال “المخلّص” وتصرّفه وتصريحاته التي تصدر عن صاحب قرار وسلطة متحكّم؛ لا ضيفاً قادماً لمد يد العون لبلد صديق! وزاد الأمر قباحة مطالبة عشرات الآلاف من اللبنانيين بالدعوة الصريحة لعودة الانتداب الفرنسي! إذ إن الشعارات الوطنية لم تعد تسمن أو تغني من جوع، وباتت الحياة -أي حياة- هي منتهى ما يطمح إليه الكثيرون ولو كانت تحت حذاء المستعمر!
يمثل وجود سلطة قوية مهيبة (إلى جانب الشعب والأرض) ركناً ركيناً وعموداً أساسياً في بناء أي دولة، ولا يمكن أن تقوم دولة وتبقى مستمرة ومستقرة بدون هذه السلطة. كما أنه من الضرورة البالغة التأكيد على أنه لا يوجد عاقل يقبل أن تضيع هيبة الدولة سواء اتفق مع السلطة الحاكمة أو اختلف. فإن لم تكن هنالك سلطات قوية تنظّم حياة الناس فإن الأمور ستبقي في اضطراب دائم وقلاقل، وسيغيب الأمان، ويصبح البلد هش البناء تهزّه أي ريح عابرة، وتتنازعه الولاءات الخارجية على حساب الانتماء إليه.
إن ما نشاهده في لبنان لهو مصدر عبرة وتفكّر ويجب أن يقف عنده الأردنيون مليّاً، لأن الكثيرين من الأردنيين باتوا قليلي الثقة بالدولة وسلطتيها التنفيذية والتشريعية، ولم يبق إلا السلطة القضائية التي ندعو أن تنجو من طوفان عدم الثقة. فقد بتنا في الأردن ما بين حكومة صورية ضعيفة غائبة عن الواقع؛ يرى الكثيرون أنها ليست سوى واجهة تنفّذ ما يملى عليها، وبين طبقة سياسية مشتتة ما بين أحزاب خاوية على عروشها ومجلس نواب أبعد ما يكون عن هموم الشعب، تشوب الكثيرين من أعضائه شبهة التنفع من المنصب وتفوح منهم روائح الصفقات المشبوهة، أما باقي السياسيين من الحكوميين السابقين أو النقابيين وغيرهم؛ فجلّهم لا يتعدى دوره التنظير الفارغ ويذوبون كما الملح في الماء عندما يحتاجهم الوطن في المواقف المهمة. مما أدى إلى الشعور العام بأن الفساد قد تمكّن من السلطتين التشريعية والتنفيذية وأدى إلى تآكل الثقة بهما.
من أكبر الافتراضات التي أثبتت تجارب الكثير من دول العالم خطأها وفشل القيادة على أساسها أن هيبة الدولة تأتي من العصا الغليظة وكبت حرية التعبير وإنكار وجهة النظر الأخرى وشيطنتها واختزال الوطن في أشخاص أو مؤسسات بعينها؛ فهيبة الدولة (أي الوطن كله) تأتي من شعور المواطن بقيمته وإحساسه بأنه عزيز وافر الكرامة، وأنه في بلد قانون ومؤسسات يتميز بأعلى مستويات العدالة والشفافية؛ وهي البيئة التي ينتفي فيها الفساد. وإن وجود الدولة ككيان مستقر ومستمر ومزدهر يتطلب أن تكون هناك سلطات قوية وراسخة يأنس لوجودها ويثق بها الناس لا أن يخافوا منها ويرهبوها ويخشون على لقمة العيش من مجرد التعبير عن رأي لا يروق للسلطة التنفيذية فيها، لأن الإنسان الخائف لن يستمر خوفه؛ وكلما طال الخوف كانت ردة فعل الخائف أكثر سوءاً وضرراً لا يستثني أحداً كما نشاهد في لبنان.
كما يجب ألا ننسى القاعدة المهمة التي تضمن استقراراً وأمناً حقيقيين وهي أن الوطن للجميع ولا يمكن لأحد إلغاء أحد، وأن الأردن بقي في محيط إقليمي متلاطم واحة محبة بين القيادة والشعب ولم تكن العلاقة يوماً كسر عظم بين الطرفين حتى في أسوأ الظروف. وإن من يفكر بالاستئثار بالبلد ويقصي الآخرين إنما هو مخطئ بلا أدنى شك. ولا ينفعنا في الأردن نموذج بعض البلدان التي تعوّض مواطنيها بالرفاه بدل الحرية، فالكبت والظلم مع الفقر كما البنزين والنار؛ يحرقان كل أوراق الشعارات والأغاني التي تتغنى بحب الوطن؛ والتي يراد أن يبقى الفقراء يقتاتون بها وهم فاقدوا الحرية! والأردنيون يستحقون بكل جدارة معيشة الحرية والرفاهية كما بقية الشعوب الحية التي يذكر مواطنوها اسم بلادهم بكل فخز واعتزاز وليس بعيون مكسورة!
وأختم بعبر قيّمة منتقاة من قصيدة “الأفوه الأودي” لعلها تجد آذاناً صاغية وقلوباً واعية:
لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم وَلا سَراةَ إِذا جهّالهم سادوا
تُلفى الأُمورُ بِأَهلِ الرُشدِ ما صلَحَت فَإِن تَوَلَّوا فَبِالأَشرارِ تَنقادُ
إِذا تَوَلّى سَراةُ القَومِ أَمرَهُمُ نَما عَلى ذاك أَمرُ القَومِ فَاِزدادوا

حفظ الله الأردن من كل شر؛ وأدام ازدهاره

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى