زلاعيمه طايحات / رائد عبدالرحمن حجازي

زلاعيمه طايحات
لم ولن أنسى ذلك اليوم , فقد كنت في العاشرة من عمري وقد أصابني إلتهاب شديد بالحلق واللوزتين . لم أكن أتذوق الأشياء حتى شُربة الماء لم أكن أطلبها . مرت بضعة أيام وأنا أتناول ذلك الشراب الأصفر ذو الطعم والرائحة الكريهتين بالإضافة لبعض صواريخ الريفانين الخافضة للحرارة . لكن لا تحسن يُذكر فوضعي الصحي في تدهور وجسمي أصبح هزيلاً ولم أعد أقوى على الحِراك .
في ذلك اليوم ذهب رحمة والدي لمكتب تكسي البيضاء لإحضار سيارة أُجرة كوننا لم نكن نملك هاتف آنذاك . استقلينا السيارة ووضعني رحمة الوالد في حِجره وتوجهنا لعيادة الدكتور بركات رحمه الله في منتصف شارع السينما – إربد . والتي كانت مقابل صيدلية النابلسي من الجهة الجنوبية حالياً . صعدت درجات العيادة الثلاثة بتثاقل وتم استقبالي بلطف من الدكتور بركات وأجلسني على تخت الفحص . وسأل والدي
قائلاً : شو ماله الصبي خير إن شاالله ؟
الوالد : والله يا حكيم زلاعيمه طايحات صارلهن اتشمن يوم , واسقيناه شراب وبلا فايدة !
الدكتور : بسيطة .. بسيطة هساعيات بعطيه إبره وبقوم يركظ اركاظ مثل الغزال
بدكوا الصراحة أنا أول ما سمعت بالإبرة تخربط كياني فوق ما هو مخربط وقلت للدكتور : خلص ببطل أمرظ . لكن لا حياة لمن تنادي . فالمشهد كان كالتالي :-
والدي يتحدث مع الدكتور ويشرح له عن عدم جدوى ذلك الشراب الأصفر والتحاميل خلال الأيام الماضية . والدكتور يضع قطع معدنية فضية اللون بالماء المغلي . وأنا جالس على التخت أرتعش خوفاً من هول ما رأيت فبالإضافة لهم الإبرة جائني هم الماء المغلي وما سيسببه لي من ألم وحروق . فأنا لم أكن أعرف طريقة تعقيم الإبرة بهذا الشكل .
إنتهت عملية التعقيم وجاءت عملية التركيب , حيث شرع الدكتور بتركيب الإبرة وتلك القطع وكأنه يجمع قطع (كلاشينكوف). وقال الدكتور للوالد : أقظبه مليح لا تخليه يتحرك . والباقي عندكوا . انتهت هذه العملية بنجاح بالنسبة للدكتور ولكنها بالنسبة لي كانت كارثة , ولكي تزداد معاناتي أكثر وأكثر سمعت الدكتور يقول لوالدي : إذا ما تحسن خلال يومين ابقى جيبه مشان أعطيه إبره ثانية .
الطريف بالأمر ونحن في طريق العودة للبيت تناسيت مرضي بسبب تلك الإبرة , وقلت لوالدي : يابا أنا طبت ما بدي أرجع لعند الدكتور . ضحك الوالد تلك الضحكة التي تخفي حُزناً , وقال لي مواسياً : غزال والشر زال .
بعدها كنت كلما مررت بعيادة الدكتور بركات رحمه الله أتذكر ذلك الكلاشنكوف الصغير وتلك الصواريخ الخافضة للحرارة . أما الآن فالعيادة غير موجودة بسبب إقامة بناية تجارية مكانها منذ سنوات وأصبحت تلك الذكريات من الماضي . لكن هناك من أعاد لي تلك الذكريات وبقوة . إنها حكومات ضريبستان للجباية , فهي تمتلك أسلحة فتّاكة وأكثر إيلاماً من تلك الإبر المعقمة بالماء المغلي مثل ( إبر التخدير وصواريخ الخوازيق ).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى