
ثقافة المؤامرة
تتسم الحياة السياسية بالتعقيد الشديد ، وتتداخل المتغيرات بشكل يحتاج لقدر كبير من الأناة والمناهج والبيانات لفك طلاسمها، فيميل الأفراد لطريقة أكثر يسرا، وهي نظرية المؤامرة ، والتي تعني “خطة سرية يضعها عدد محدود من الأطراف ،وتفترض أن الواقع سيسير طبقا لتلك الخطة الموضوعة مسبقا”.
والحقيقة أن التاريخ مليء بالمؤامرات ، لكن التاريخ نفسه ليس مؤامرة، كما تعلمنا من هيغل، فالتطور الاستراتيجي لا يتم بالمؤامرة، وانهيار الإمبراطوريات لا يتم بالمؤامرة، لان الذي يخلق التطور العام هو التطور الخاص،أي هو التطور العلمي والتقني من ناحية ،وتطور المنظور القيمي والقانوني والإداري من ناحية ثانية، وغياب هاتين الناحيتين يقود للانهيار، والتطور العلمي والتقني لا يتم بمؤامرة( فهل تم اكتشاف الكهرباء بمؤامرة، والتطور الطبي ، والصناعي ،والتطور النووي، ..الخ) ، وهل تطورت التنظيمات الإدارية والتشريعات والنظم القضائية بالمؤامرة..وهل ضبط الزيادة السكانية وتحقيق معدلات نمو اقتصادي تتم بمؤامرة؟ أليست هذه الأسباب هي التي تتوارى وراء كل تطور أو وراء كل انهيار..
إن المؤامرة تفسر حدثا معينا(معركة، انقلاب،أزمة قصيرة المدى..الخ)،لكنها لا تفسر الاتجاه التاريخي للتطور،فاليابان عام 1950 كان إجمالي إنتاجها المحلي يساوي نصف الإنتاج البريطاني، بينما يصل الإنتاج البريطاني حاليا أقل من نصف الياباني، فهل تم ذلك بمؤامرة؟ وعندما كان ماوتسي تونغ يحكم قبضته على عنق الصين كان ترتيب الصين في الاقتصاد العالمي رقم 36، وبعد التحديثات الأربعة منذ 1978،أصبحت الصين في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، فهل تم ذلك بمؤامرة..وهكذا يمكن تفسير اتجاهات العولمة…والأزمات الاقتصادية..والاضطرابات الاجتماعية البنيوية…الخ..فالمؤامرة تفسر “حدثا-event” لكنها لا تفسر الاتجاهات”Trends” أو الاتجاهات الأعظم”Mega-trends) التي تمتد لسنوات أطول وتعبر عن التغيرات البنيوية..
فالقرار السياسي هو محصلة ارث تاريخي واجتماعي وسياسي واقتصادي وسيكولوجي،وتتباين الدول في قراراتها من خلال تباين وزن كل من هذه المتغيرات في صنع القرار، وتصبح المؤامرة جزءا من تكتيكات تنفيذ ذلك القرار ، لكن حركية المؤامرة قصيرة المدى، فهي نافعة في نطاق التكتيك لكنها لا تصلح استراتيجية. فبريطانيا التي اشتهرت في الثقافة العربية خاصة بانها ” مايسترو المؤامرات” في العالم تتراجع في سباق الدول الكبرى بشكل واضح ، فلماذا لا تحل مشكلة تراجعها بمؤامرة؟..
نعم هناك مؤامرة( تفسر حدثا معينا)، لكن التاريخ(الاتجاهات الكبرى) ليس مؤامرة، غير أن نقص المعلومات والبيانات وفقر الدراية في مناهج التحليل وتطورها في المجالين الكمي والكيفي يجعل الناس يوظفون القدر القليل من المعلومات المتوفرة لديهم لتفسير التطورات التاريخية التي تبدأ بنقاط تحول تحتاج للحصافة الشديدة لإدراكها.
كذلك فإن الاتكاء على ” كنبة المؤامرة” يريح النفس لأنه يعطي الفرد إحساسا بمنطقية الربط ، لكنه لا يدرك أن تعقيدات الواقع لا تقل عن تعقيدات الظواهر الطبيعية ..بل لعلها أكثر…فأرمستورنج(رائد الفضاء الأمريكي المعروف) يرى أن الوصول للقمر أسهل كثيرا من فهم شخصيات هملت التي كتبها شكسبير…
إن ثقافة المؤامرة هي امتداد لثقافة “الطب الشعبي”..فالذي يعرف بعض خصائص الزنجبيل يوظفه في علاج السرطان ونقص المناعة بل وتحليل الدي إن إي…..نعم التاريخ مليء بالمؤامرات..لكن التاريخ نفسه ليس مؤامرة…