رواندا من المجاعة والإبادة . . إلى النهضة والرفاه
موسى العدوان
رواندا هي دولة صغيرة في منطقة البحيرات العظمى وسط إفريقيا. تبلغ مساحتها حوالي 26 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانها حوالي 12 مليون نسمة، عاصمتها مدينة كيغالي، استقلت عام 1961، ونظام الحكم فيها جمهوري. ولكن قبل أن أتحدث عن هذا الدولة التي غرقت في مستنقع الحرب الأهلية، أرغب أن أعرض لمحة قصيرة عن القارة الإفريقية، والتي تشكل رواندا إحدى دولها.
لقد ارتبط أسم القارة الإفريقية في أذهان القراء والمستمعين بصور نمطية تعبّر عن الحكم الدكتاتوري والفساد والفقر والحروب الأهلية، والعاجز عن اللحاق بالدول المتحضرة، والمنطقة المصدّرة للجائعين والمقهورين. كل هذا حدث بسبب معايشتها لويلات الاستعمار، وتحكمه بإرادتها والسيطرة على ثرواتها الطبيعية.
جريدة الإيكونومست البريطانية وصفت القارة السوداء في وقت سابق بأنها ” قارة بلا أمل “. ولكن يبدو أن هذه الصورة النمطية في طريقها إلى التغيير، بعد انتقال بعض دولها في العقدين الأخيرين، من التخلف إلى التطور والديمقراطية، بصورة تفوق ما يجري في الدول العربية.
وعودة إلى رواندا إذ كان يقطنها منذ القدم قبيلتان هما : التوتسي وهم ملاك الأراضي وأصحاب المواشي والأبقار، ويعتمدون على الرعي في أسلوب حياتهم، والهوتو الذين يمتهنون أعمال الزراعة. وكانت القبيلتان تعيشان بتوافق وسلام طيلة الزمان الماضي، إلى أن هبط عليهما الاستعمار الألماني عام 1885 ثم الاستعمار البلجيكي عام 1922.
وكما هي عادة المستعمر في إثارة الفوضى وزرع الفتن بين أبناء البلد الواحد، قام البلجيكيون بتحريض الهوتو على التوتسي، وإذكاء العصبية بينهم بدعوى أن التوتسي إقطاعيين وملاك الأراضي رغم أنهم ليسوا من أصول رواندية، مما سبب تذمر الهوتو ووقوع الاشتباكات المتفرقة بين الطرفين .
في نهاية عقد الخمسينات الماضي اندلعت الثورة بين الطرفين، فيما عُرف بِ ” ثورة فلاحي الهوتو “، وتمت الإطاحة بالتوتسي كطبقة حاكمة، وإجبارهم على الفرار إلى المنفى في الدول المجاورة. لم يتوقف التحريض والصراع بين مكونات المجتمع الرواندي، فشكلت قبيلة التوتسي” الجبهة الوطنية الرواندية “، والتي قامت في عام 1991 بغزو قبيلة الهوتو، ولكن تم صد الهجوم.
في عام 1994 أسقطت طائرة الرئيس الرواندي المنتمي إلى قبيلة الهوتو، فاشتعلت الحرب بين الهوتو والتوتسي من جديد، استمرت لمائة يوم تخللتها عملية إبادة جماعية وقع ضحيتها حوالي مليون قتيل. استولت التوتسي على الحكم فنزح الهوتو خارج البلاد خشية الانتقام.
استقال الرئيس الرواندي بيزي مونجو عام 2000، بعد أن فشل في إدارة الدولة وغرق البلاد في فوضى عارمة. فتولى السلطة نائبه بول كاغامي، انتقلت البلاد في عهده من عصر الفوضى والدماء، إلى عصر المصالحة والوحدة والتنمية.
لقد عرف الرئيس الجديد أن مسار التفرقة العنصرية لا يؤدي بهم إلاّ إلى مزيد من الدماء والحروب وتراجع البلاد. فاختار مسار الوحدة والتنمية والمعرفة، وارتكزت سياسته على عاملين أساسيين : الأول توحيد الشعب المنقسم، والثاني انتزاع بلاده من الفقر.
نجح الرئيس كاغامي في تحقيق المصالحة بين أفراد المجتمع، وعاد اللاجئون إلى بلادهم، ونُظمت محاكم محلية لإعادة الحقوق لأصحابها وإزالة المظالم، ثم قام بالأعمال التالية :
1. أطلق مشروع رؤية 2020، والذي تضمن إجراءات تهدف إلى تحقيق نهضة تنموية شاملة، على المديات الثلاث القصير والمتوسط والبعيد. القصير ويتمحور حول تكوين الثروات وتقليل الاعتماد على المعونات والديون الدولية. والمتوسط يتمحور حول التحول من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد المعرفي، وذلك من خلال تطوير التعليم والتكنولوجيا والاتصالات. والبعيد يتمحور حول خلق طبقة وسطى منتجة، من خلال تعزيز روح المبادرة لديها عبر تمكينها من خلق الثروة، والمساهمة في تطوير اقتصاد البلاد. وهناك أيضا رؤية 2035 ورؤية 2050، واللتان تتطلعان للارتقاء بالبلاد إلى مصاف الدول المتقدمة ذوات الدخول العالية.
2. أقر دستورا يلغي الفوارق العرقية، وحظر استخدام مسميات الهوتو والتوتسي، وجرّم استخدام أي خطاب عرقي.
3. شكل حكومة وطنية أخذت فيها النساء نصيبا وافرا من الوظائف.
4. قام بمجهود كبير في الجانب التعليمي وتثقيف الشباب، والاهتمام باللغات المحلية والأجنبية وبث الروح الوطنية.
5. اهتم بالجانب المعلوماتي والتكنولوجي والانفتاح على العالم الخارجي.
6. عمل على تطوير الاقتصاد بشكل عام، فأصبحت رواندا من الدول الرائدة في مجال النمو الاقتصادي، حيث سجل اقتصادها النمو الأكبر على مستوى العالم. فخلال الفترة من عام 2000 – 2015 حقق اقتصادها نموا في ناتجه المحلي بلغ 9 % سنويا. وارتفع الناتج المحلي عام 2016 إلى 8.5 مليار دولار مقارنة بِ 2.6 مليار دولار عام 2005.
وأخذت السياحة وحدها تحقق دخلا بما نسبته 43 % من الدخل الإجمالي المحلي في البلاد. كما ارتفع مستوى دخل الفرد ثلاثين ضعفا عما كان عليه قبل ذلك بعشرين عاما، وتراجعت معدلات الفقر والبطالة، وتناقصت نسبة الأمية.
7. صُنفت رواندا كأول دولة في إفريقيا جاذبة لرجال الأعمال، وحصلت العاصمة كيجالي على عدد من الألقاب التي تعلي من قيمتها ومنها : الأكثر أمنا في إفريقيا، الأنظف بين عواصم إفريقيا، أيقونة التنمية الإفريقية الحديثة.
8. أصبحت رواندا تحتضن العديد من الملتقيات الاقتصادية والقمم الإفريقية.
9. بتاريخ 27 فبراير/ شباط الماضي، أطلقت رواندا أول قمر صناعي للاتصالات، من مركز كوروا للفضاء في غويانا الفرنسية، لربط المدارس والمناطق الحضرية بالانترنت المجاني، والانتقال لشبكات الكوابل الضوئية.
لم يلجأ الرئيس كاغامي إلى البنك الدولي للاقتراض، ولم يستجدِ المساعدة من الدول الإفريقية أو العالمية، ولم يركب طائرته ليوطد العلاقات مع دول العالم، ويبحث عن المستثمرين، ولم يعين أصحاب الشهادات العالمية في المواقع الحساسة بالدولة، ليضعوا خطط النهضة في البلاد. لقد شكّل حكومة وطنية وجلس معها في مقر الحكومة يستشرف ويخطط لمستقبل البلاد.
نهضت هذه الدولة الصغيرة من تحت الركام، وتجاوزت المجاعة والإبادة، لتصنع معجزة اقتصادية عظيمة، بهمة قائدها الوطني بول كاغامي، خلال أقل من عقدين، فاستحق لقب : ” رائد نهضة رواندا الحديثة “.
ختاما أقول في هذا اليوم . . يوم عرفة المبارك : حزين عليك يا بلدي . . وكل عام وأنتم بخير . . !
التاريخ : 10 / 8 / 2019