#رواندا. . من #الفقر و #الحروب_الأهلية إلى #معجزة_اقتصادية عالمية
موسى العدوان
استثارني نبأ صناعة السيارات في #رواندا الذي نشر في الأخبار مؤخرا، وتساءلت : كيف استطاع هذا البلد الإفريقي الفقير والمتخلف، والذي مزقته الحروب الأهلية، أن يصنع معجزة اقتصادية في اقل من عقدين، ليصبح في طليعة الدول المتقدمة، بينما بلدي الذي دخل في المئوية الثانية من عمره، لم يحقق مثل هذه النتيجة ؟ ولهذا رأيت أن أروي قصة هذا البلد العجيبة – رغم انني كتبت عنه مقالين في وقت سابق – لعلنا نأخذ منها #الدرس و #العبرة.
فإفريقيا التي تنتمي إليها رواندا، ارتبط في فكر وقناعات العالم المتحضّر، بأن #أنظمة_الحكم فيها تتصف بالدكتاتورية و #الفساد والفقر والحروب الأهلية، وتصدير الجائعين والمقهورين، وعجزه عن اللحاق بالدول المتحضرة. وقد وصفت جريدة الإيكونوميست البريطانية القارة السوداء : ” بأنها قارة بلا أمل “.
إلاّ أن هذه الصورة النمطية في طريقها إلى الزوال، بعد انتقال بعض دولها في العقدين الأخيرين، من التخلف إلى التطور، فشكلت قصة تستحق الرواية.
تقع رواندا في منطقة البحيرات العظمى في وسط الشرق الإفريقي، ومساحتها لا تتجاوز 26 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانها حوالي 12 مليون نسمة عاصمتها “مدينة كيجالي”.
استقلت عام 1962 ونظام الحكم فيها جمهوري. وقد غرقت في مستنقع الحروب الأهلية، بعد أن هبط عليها الاستعمار الألماني عام 1885، ثم تبعه الاستعمار البلجيكي عام 1922. فعمد البلجيكيون إلى زرع الفتنة وإذكاء العصبية بين أكبر قبيلتين في البلاد، هما الهوتي عمال الزراعة 80 % من السكان، والتوتسي ملاك الأراضي 20 %.
ففي عقد الخمسينات من القرن الماضي اندلعت الاشتباكات بين القبيلتين فيما عُرف بِ ” ثورة فلاحي الهوتو ” وتمت الإطاحة بقبيلة التوتسي كطبقة حاكمة، وإجبارهم على الفرار إلى المنفى في الدول المجاورة، واستمر الصراع بين مكونات المجتمع الرواندي. فشَكّلتْ قبيلة التوتسي ” الجبهة الوطنية الرواندية ” والتي أقدمت في عام 1991 على غزو قبيلة الهوتو، الذين صدّوا الهجوم.
في عام 1994 أسقطت طائرة الرئيس الرواندي المنتمي إلى قبيلة الهوتو، فاشتعلت الحرب الأهلية من جديد بين القبيلتين، واستمرت لمئة يوم تخللتها إبادة جماعية وقع ضحيتها مليون قتيل من الطرفين، واستولت قبيلة التوتسي على الحكم، ونزح الهوتو خارج البلاد خشية الانتقام.
استقال الرئيس الرواندي ” بيزي مونجو ” عام 2000، بعد أن فشل في إدارة الدولة وغرقت البلاد في فوضى عارمة. فتولى السلطة نائب الرئيس ” بول كاغامي ” الذي ينتمي إلى قبيلة التوتسي، فنقل البلاد من عصر الفوضى والدماء إلى عصر المصالحة الوطنية والوحدة والتنمية. لقد عرف الرئيس الجديد أن مسار التفرقة العنصرية لا يؤدي بالبلاد إلاّ إلى مزيد من الدماء والحروب وتراجع البلاد.
اختار الرئيس الجديد مسار الوحدة والتنمية والمعرفة، وارتكزت سياسته على عاملين أساسيين، الأول توحيد الشعب المنقسم، والثاني انتزاع البلاد من الفقر، معلنا قولته الشهيرة: ” لم نأتِ من أجل الانتقام، فلدينا وطن لنبنيه، وبينما نمسح دموعنا بيد، سنبني باليد الأخرى “. نجح الرئيس كاغامي في سياسته، وحقق المصالحة بين أفراد المجتمع، فعاد اللاجئون إلى بلادهم، ونُظمت محاكم محلية لإعادة الحقوق لأصحابها وإزالة المظالم، ثم قام بالأعمال التالية:
1. أقر دستورا جديدا يلغي الفوارق العرقية، وحضر استخدام مسميات الهوتو والتوتسي، وجرّم استخدام إي خطاب عرقي.
2. شكّل حكومة وطنية أخذت فيها النساء نصيبا وافرا من الوظائف.
3. أطلق مشروع رؤية 2020 بهدف تحقيق نهضة تنموية شاملة على ثلاث مديات: المدى القصير ويتمحور حول تكوين الثروات وتقليل الاعتماد على المعونات والديون الدولية. والمدى المتوسط يتمحور حول التحول من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد المعرفي، من خلال تطوير التعليم والتكنولوجيا والاتصالات. والمدى البعيد يتمحور حول خلق طبقة وسطى منتجة، وتعزيز روح المبادرة لديها عبر تمكينها من خلق الثروة، والمساهمة في تطوير اقتصاد البلاد. وهناك أيضا رؤية 2035 ورؤية 2050، واللتان تتطلعان للارتقاء بالبلاد إلى مصاف الدول المتقدمة ذات الدخول العالية.
- قام بمجهود كبير في الجانب التعليمي وتثقيف الشباب، والاهتمام باللغات المحلية والأجنبية، وبث الروح الوطنية بينهم.
- اهتم بالجانب المعلوماتي والتكنولوجي والانفتاح على العالم الخارجي.
- عمل على تطوير الاقتصاد بشكل عام، فأصبحت رواندا من الدول الرائدة في مجال النمو الاقتصادي، حيث سجل اقتصادها النمو الأكبر على مستوى العالم. فخلال الفترة من عام 2000 – 2015 حقق اقتصادها نموا في ناتجه المحلي بلغ 9 % سنويا، وارتفع الناتج المحلي عام 2016 إلى 8.5 مليار دولار مقارنة بِ 2.6 مليار دولار عام 2005. وأخذت السياحة وحدها تحقق دخلا بما نسبته 43 % من الدخل الإجمالي المحلي في البلاد. كما ارتفع مستوى دخل الفرد 30 ضعفا عما كان عليه قبل عشرين عاما، وتراجعت معدلات الفقر والبطالة، وتناقصت نسبة الأمية.
- صُنّفت رواندا كأول دولة إفريقية جاذبة لرجال الأعمال، وحصلت العاصمة كيجالي على عدد من الألقاب التي تُعلي من مكانتها في العالم، منها على سبيل المثال: الأكثر أمنا في إفريقيا، الأنظف بين عواصم إفريقيا، أيقونة التنمية الإفريقية الحديثة.
- أصبحت رواندا تحتضن العديد من الملتقيات الاقتصادية والقمم الإفريقية.
- في 27 فبراير 2018 أطلقت رواندا قمرا صناعيا للاتصالات، من مركز كوروا للفضاء في غويانا الفرنسية، لربط المدارس والمناطق الحضرية بالأنترنت المجاني، والانتقال لشبكات الكوابل الضوئية.
لم يلجأ الرئيس كاغامي إلى البنك الدولي للاقتراض، ولم يستجدِ المساعدات من الدول الإفريقية أو العالمية، ولم يركب طائرته بين فترة وأخرى يجول في العالم، بدعوى توطيد علاقات بلاده معها، ولم يبحث عن المستثمرين بينما القوانين لديه تنفّر المستثمرين، ولم يشكل لجانا متلاحقة ممن عرفوا بالفساد، كي يضعوا خطط النهضة بالبلاد، بل شكّل حكومة وطنيّة من المعروفين بإخلاصهم للوطن، وجلس معهم في مقر الحكومة، يستشرف ويخطط لمستقبل البلاد بكل حرص واهتمام.
وهكذا أزالت هذه الدولة الزراعية الصغيرة، مظلة الفقر والجوع من فوق رؤوس مواطنيها، وتجاوزت عن التفرقة العنصرية والإبادة الجماعية، التي أودت بحياة مليون إنسان، لتصنع معجزة اقتصادية عظيمة، بهمّة وإخلاص قائدها الوطني بول كاغامي في أقل من عقدين. ولهذا اكتسب هذا القائد شعبية كبيرة بين أبناء شعبه، وما زال في سدة الحكم منذ عام 2000 وحتى الآن، حيث استحق عالميا لقب ” رائد نهضة رواندا الحديثة “.
هناك دول عديدة في جنوب شرق آسيا، وكذلك في المناطق غير العربية من إفريقيا، كانت تفتقر إلى مصادر الثروة الطبيعية، وتعاني من الفقر وهيمنة القوى الأجنبية عليها، وواجهت الحروب الأهلية، لكنها حققت سيادتها وصنعت نهضة اقتصادية، انتشلت سكانها من معاناتهم، لتصبح في طليعة الدول المتقدمة. من هذه الدول على سبيل المثال : اليابان ( التي ضربت بالقنابل الذرية )، ماليزيا، كوريا الجنوبية، سنغافورة، تنزانيا، وأخيرا رواندا.
ومقارنة مع الأردن التي دخلت في مئويتها الثانية واستقلت عام 1946، ولديها من الثروات الطبيعية، ما يمكنها من الاكتفاء النسبي، وتصبح من الدول المتقدمة، إلاّ أنها فشلت في استغلال تلك الثروات، وأقدمت على بيعها لمستثمرين أجانب، وراحت تقترض الأموال من البنك الدولي، وتنتظر المساعدات من الدول فاعلة الخير.
لقد صدع رؤوسنا المنظّرون الحكوميون بخطط الإصلاح الاقتصادي والإداري، منذ ما يزيد على عقدين من الزمان، ولكنها لم تحقق النتائج المرجوة في كلا النوعين من الإصلاح. وها نحن اليوم نستقبل بشائر ” رؤية التحديث الاقتصادي للسنوات العشر القادمة “، والتي نأمل أن لا تلحق بسابقاتها من الخطط الفاشلة.
وكلمة أخيرة أوجهها إلى المنظّرين والمخطّطين في الدولة : لا نريد خططكم وابتكاراتكم التي تَعِدوننا بها، ولا نريد أن تتعبوا أفكاركم في البحث والدراسة، وكل ما نريده منكم هو أن ( تنقلوا ) عن التجارب الآسيوية والإفريقية، أساليبهم في تطبيق نهضتهم الاقتصادية في بلدانهم، وتعدّلوها بما يناسب أوضاعنا العامة، على أن يتولاها رجال أمناء مخلصون للوطن والشعب، ويتقون الله فيما يفعلون . . !
التاريخ : 17 / 8 / 2022