سواليف – رصد
قبل عشرة أيام أثناء إضراب الدكتور عن الطعام توفي إبن أخته الطفل محمد ….و علم الدكتور بوفاته بعد أن فك إضرابه فأرسل رسالة لأخته و زوجها ، رأينا فيها عظة جميله فاحببنا ان ننشرها على محبيه:
أختي الحبيبة نادية، أخي الحبيب إياد، فادي، يزيد، براء، عمر…
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
و أعظم الله أجركما في حبيبنا حموده.
علمت بالخبر أمس، فجاشت في صدري معانٍ كثيرة أحببت أن أشاطركم إياها و في ختامها سأزُف لكم بشرى بخصوص حموده.
إياد و نادية، لقد تعلمت منكما درساً بليغاً مما لا يمكن أن أتعلمه من الكتب: درساً في الرضا و محبة قدَر الله تعالى.
لا زلت أذكر يا نادية تلك اللحظة قبل ثلاث سنوات و ثلاثة شهور حين زرتك في المستشفى لأبلغك بالتدريج حقيقة أن مولودك الجديد مصاب بمتلازمة داون… لا زلت أذكر ثباتك و هدوءك و أنتِ متعبة من آثار العملية حين فهمت الأمر فقلت:”خير إن شاء الله ” ثم غيرت الموضوع، و كان لسان حالك بعدها يقول :” يا ربِّ إن كنتَ رضيته لي فقد رضيت به”.
لا زلت أذكر إياد حين سألتني :”هل هذا يعتبر ابتلاءً و لنا عليه أجر إن صبرنا؟ ” و كأنك كنت تقصد أن مولودك نعمة و إن كانت نعمة غير تامَّة فليس لك أن تتعامل مع الأمر بغير ذلك. فأجبتك :نعم، مرضه ابتلاء و لك على الصبر عليه أجر بإذن الله. فهزَزت رأسك بصمت و اتخذت أنت أيضاً قرار الصبر.
لكن ما بدا منكما بعد ذلك أخي و أختي الحبيبين لم يكن صبراً عادياً، بل كان أكمل و أعلى… كان رضاً و صبراًً جميلاً، جميلاً بمعنى الكلمة.
كان من الممكن أن تصبرا على مضض و تقدما لحموده الحد الأدنى من الرعاية الواجبة و تتمنَّيا في قلبيكما أن “تنتهي المعاناة” بوفاته… و لو كان هذا حالكما لما كنتما آثمَين طالما لا جزع و لا اعتراض و لا تقصير في الرعاية الأساسية.
لكنكما أحببتما مولودكما الجديد حباً حقيقياً. حين علم الله منكما – فيما أحسبكما-رضاً بقضائه، أوجد في قلبيكما مودة و رحمة خاصة لهذا الطفل، مصداقاً لقوله تعالى :(ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله و من يؤمن بالله يهدِ قلبه)، و قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبرْ يصبّره الله) أحببتما حموده و تمنَّيتما أن يَعيش.
نادية، لا زلت أذكر مشهد و أنت ترهشين لحركات حموده و كأنني أسمع صوتك و أنت تضحكين له من أعماق قلبك و تقولين : (حمودي… يا حياتي!)
اشتريت له أجمل الملابس، حرصت على أن يكون (أكثر واحد مشخص) في كل عيد، لم أره يوماً عبر السنوات الثلاثة إلا أنظف و أطيب رائحة من كل أولاد جيله، نشرت صوره بفخرٍ على الفيسبوك، صممتِ له أجمل فيديو… كل هذا مع أنك فعلياً حبِستِ مع حموده، فلم تستطيعي الخروج من المنزل للزيارات و الدروس و الرحلات لتعتني بحموده و تنفسه، و كثير من الأيام تترددين فيها بحموده بين الأطباء و المستشفيات، و تتابعين جلسات تعليم النطق و تحسين الحركة لحموده.
أصبح حموده هو حياتك، و استعنتِ بالله لتكون حياة جميلة.
إياد، لم تكن ترهش كثيراً لحركات الأطفال في هذا السن، لكنك حفلت بحموده أكثر من غيره…. أنفقت عليه بسخاء دون تردد :عملية القلب، ثم عملية البطارية، ثم نفقات العلاج و التأهيل… كل هذا بطيب نفس.
و أنتما في ذلك كله تريدان لحموده أن يعيش، أن يكبر، أن يكون أقرب ما يمكن للإنسان السوي، و أن يبقى بيننا.
في حسابات الماديين، “ضاع” الكثير من الوقت و المال و الجهد على حموده…
لكن في حسابات أهل الإيمان فإن الوقت و المال و العاطفة من نِعَم اللّه، و حموده أمانة استرعاكما الله عليها، فأنتما سخَّرتما نعمة الله في رعاية أمانة الله عندكما، فَلكم بكل ما بذلتم أجرٌ بإذن الله.
أولادكما نجحوا معكما حين تعاملوا بحفاوة و اهتمام مع حموده، خصوصاً براء، الصديق المقرب من حبيب الشعب.
لما أحببتما حموده بصدق أحببناه كلنا بصدق… لما نظرتما إليه كإنسان مهم نظرنا إليه كلنا كذلك… ثم لما حزنتما على فقده حزنا كلنا…
لأننا تعلمنا منكم درساً عملياً كنتما لنا فيه جميعاً قدوة… الدرس أكبر بكثير من حسن التعامل مع الأولاد من ذوي الاحتياجات الخاصة… إنه درس في تحويل الأقدار المؤلمة إلى مظهر رضاً و تسليم و مزرعة حسنات… و هو درس يحتاجه كل مبتَلى. لقد رحل حموده، لكن درسه سيبقى.
كان يمكن لعزاء حموده أن يكون فاتراً و أن تُريا فيه مبسوطين مستريحين لانتهاء معاناتكما مع حموده… لكن ليس هذا الذي كان.
كم فخرت بك يا نادية حين أخبرني مراد أنك بكيت عند وفاة حموده بشدة، و مع ذلك ما كان لك قولٌ إلا (الحمد لله، الحمد لله) تتصبرين بها.
فخرت بكما إياد و نادية حين عرفت من أمي أن عزاء حموده استمر أياماً، أكثر مما يُعزى بأي طفل، و أن عزاءه كان مشهوداً حضره خلق كثير…
كأنكما فتحتما بالعزاء للناس مدرسة يتعلمون فيها عملياً الرضا و احترام الإنسان و تقدير نعمة الله تعالى.
أنا حزين على حموده، و مشتاق له “حبيب الشعب” لكني سعيد لكما جداً، و أريد منكما أن تكونا سعيدين لأنكما، فيما أحسبكما و الله حسيبكما، نجحتما في اختبار حموده، فأرجو أنه بينما كانت الطبيبة تكتب شهادة وفاته، كانت الملائكة تسجل نجاحكما، بل تفوقكما، في صفحة اختبار حموده، ثم طويت هذه الصحيفة، و ارتفعت إلى الله تعالى مع روح حموده… و ستُنشر لكما هذه الصحيفة يوم القيامة… أسأل الله أن يُبيض بها وجوهكم و يُثقل موازينكم.
فاشكرا الله كثيراً على أن وفقكما في هذه التجربة و اسألاه تعالى أن يَتقبل منكما.
عزيزَيَّ إياد و نادية، ختاماً، إليكما البشرى :
حموده ستلقونه في الجنة بإذن الله تعالى، فهو نفسٌ بشرية، و الأنفس تحيا يوم القيامة و تبقى مخلدة، و هو من أطفال المسلمين. لذا، نَعَمْ، ستلقونه في الجنة بإذن الله…. لكنه لن يكون فيها مصاباً بمتلازمة داون، بل سيكون كاملاً جميلاً بجمال رضاكما عن قضاء الله حين رزقكما إياه.
لذا، فاحرصا على العمل الصالح و نيل رضا الله تعالى ليُلحقكما به برحمته.
أخيراً:
حموده…. رحل من الدنيا قبل أن يتعلم النطق، لكن لسان حاله يقول:
(بابا و ماما، جئتُ في حياتكما لمهمة:
أن أستخرج منكما عبادة الرضا و أرسم معكما قصة صبرٍ جميل….
و أحب أن أقول لكما:أنكما نجحتما في الاختبار… لذا، فإن مهمتي قد انتهت، و سأرحل الآن… لكننا سنلتقي بإذن الله… في الجنة…
محبكم :حموده)
إياد و نادية، أنا فخور بكما، و أحبكما في الله على هذا الدرس العظيم الذي أخجل من نفسي أمامه، و أسأل الله العظيم أن يجمعنا و أحبابنا في الجنة مع حبيب الكل حموده.
محبكما:إياد