رؤية نتنياهو للشرق الأوسط الجديد: التوسُّع الإسرائيلي وأجندة القوى الكبرى

#رؤية_نتنياهو للشرق الأوسط الجديد: التوسُّع الإسرائيلي وأجندة القوى الكبرى

 دوسلدورف/ #أحمد_سليمان_العمري

تشكِّل رؤية «بنيامين نتنياهو» للشرق الأوسط الجديد تجسيدا لطموحات إسرائيليَّة تاريخيَّة في توسيع نفوذها والسيطرة على الأراضي الفلسطينيَّة، مستندة إلى أيديولوجيَّة صهيونيَّة تهدف إلى ضمِّ الأراضي المحتلّة وتحقيق الأمن القومي الإسرائيلي.

هذه الرؤية ليست جديدة، بل تمتدُّ لعقود منذ قيام دولة إسرائيل، حيث تبنَّى قادة إسرائيليون مثل «دافيد بن غوريون» وحتى «نتنياهو» سياسات مشابهة تسعى لتوسيع حدود الدولة على حساب الفلسطينيين.

 الجذور الأيديولوجيَّة والتاريخيَّة

يرجع هذا التوجُّه إلى أواخر القرن التاسع عشر، مع ظهور الحركة الصهيونيَّة التي سعت لإنشاء دولة يهوديَّة في فلسطين، معتبرةً أنَّ هذه الأرض هي «أرض الميعاد» التي وُعد بها اليهود دينيّا وتاريخيّا.

منذ ذلك الحين، سعت إسرائيل إلى ترسيخ سيطرتها على الأراضي الفلسطينيَّة، بما في ذلك الضفة الغربيَّة وقطاع غزّة، بوصفهما جزءا لا يتجزَّأ من الدولة الإسرائيليَّة، وهي الرؤية التي تُعرف بـ «إسرائيل الكبرى».

في خطابه أمام الكونغرس الأمريكي، صرَّح نتنياهو بوضوح أنَّ «السامرة» و «يهودا»، وهما الاسمان العبريان للضفة الغربيَّة، هما جزء لا يتجزَّأ من «أرض إسرائيل». لم يكن هذا التصريح مجرَّد تعليق سياسي عابر، بل يعكس استراتيجيَّة إسرائيليَّة طويلة الأمد تسعى لدمج هذه الأراضي ضمن حدود الدولة، متجاهلة الحقوق الفلسطينيَّة، حيث تكرِّس إسرائيل من خلال هذه السياسة رؤية مستقبليَّة تتضمّن الضمَّ التدريجي للأراضي الفلسطينيَّة، ما يمهِّد الطريق لتغيير جذري في الخارطة الجيوسياسيَّة للشرق الأوسط.

خارطة الشرق الأوسط الجديد

تشير بعض التحليلات الإسرائيليَّة إلى أنَّ رؤية نتنياهو تتجاوز مجرَّد ضمّ الأراضي الفلسطينيَّة، فهي جزء من خطة أوسع لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يتناسب مع المصالح الإسرائيليَّة.

يرى المحلِّل الإسرائيلي «إيال زيسر» أنَّ هذه الخطة تسعى إلى بناء علاقات جديدة مع دول عربيَّة في إطار تحالفات أمنيَّة واقتصاديَّة تعزِّز موقع إسرائيل في المنطقة.

من جهةٍ أخرى، عرض نتنياهو، خلال خطابه أمام الجمعية العامّة للأمم المتحدة الجمعة 26 سبتمبر/أيلول 2024، خريطتين تظهران الضفة الغربية وقطاع غزّة كجزء من إسرائيل، الأولى باللون الأخضر للدول التي تربطها معها اتفاقيات تطبيع وأخرى قاب قوسين أو أدنى، وضمّت مصر والسودان والإمارات والسعودية والبحرين والأردن، وكُتب على الخريطة الأولى كلمة «البركة»، وعلى الخريطة الثانية كلمة «اللعنة».

هذه الرؤية تتوافق مع خطة «صفقة القرن»، التي اعتبرتها العديد من الدول وسيلة لتعزيز السيطرة الإسرائيليَّة، حيث يُنظر إلى الحدود المقترحة على أنَّها تسعى لتغيير الخريطة السياسيَّة لتشمل الأردن وأجزاء من السعوديَّة ومصر وسوريا ولبنان.

في حين دعمت الولايات المتحدة إسرائيل لتحقيق أهدافها التوسّعيَّة، فإنَّ روسيا والصين أبدتا مخاوفهما من أن يؤدي الضمُّ الإسرائيلي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة.

العديد من المحلِّلين السياسيين الأوروبيين يعتبرون أنَّ هذه الرؤية الإسرائيليَّة تمثِّل تهديدا للأمن الإقليمي، وقد تقود إلى مزيد من التوترات مع الدول المجاورة، خاصَّة الأردن ومصر، اللتين قد تتأثَّران بشكل مباشر من هذه التغيرات الجيوسياسيَّة.

الأوضاع الإنسانيَّة في غزّة

بالتوازي مع هذه الرؤية التوسّعيَّة، تعيش غزّة حرب إبادة وتطهير عرقي، فضلا عن الأزمةً الإنسانيَّة الخانقة نتيجة الحصار المستمرِّ والعمليات العسكريَّة الدائمة المتكرِّرة، حتى أنّها أصبحت أداة قتل بالتجويع. في شمال غزّة على وجه الخصوص، يعاني المدنيون من نقص شديد في المساعدات الإنسانيَّة، حيث تتعرَّض المستشفيات للحصار والقصف والدمار، مما يُفاقم القتل المُمنهج جرّاء ذلك.

تشير التقارير الواردة من وزارة الصحة الفلسطينيَّة إلى أنَّ عدد القتلى والإصابات قد ارتفع بشكل كبير، بينما تُمنع فرق الإنقاذ من إيصال الجرحى إلى المستشفيات. هذا الوضع الإنساني الكارثي يُستخدم كأداة ضغط سياسيَّة لتحقيق أهداف إسرائيليَّة أوسع، حيث يسعى الجيش الإسرائيلي إلى تنفيذ «خطة الجنرالات» التي تهدف إلى تهجير السُكّان الفلسطينيين قسريّا من شمال غزّة، ما يمهِّد الطريق لإعادة احتلال المنطقة وبسط السيطرة عليها.

الاغتيالات الإسرائيليَّة للقيادات الفلسطينيَّة

جزء آخر من سردية إسرائيل لترسيخ نفوذها يتجلّى في استخدام سياسة الاغتيالات كوسيلة للقضاء على القيادات الفلسطينية، فهي تعتقد أنّ التخلّص من قيادات المقاومة الفلسطينية يعني بالضرورة إنهاء المقاومة بشكل عام.

هذه الفكرة تجسّدت في التصريحات الأخيرة التي صدرت عن مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين وأوروبيين، حيث طالبت هذه الأطراف بإعادة الأسرى الإسرائيليين بعد استشهاد يحيى السّنوار، مما يعكس اعتقادهم بأن المقاومة مرتبطة ارتباطا وثيقا بشخصيات معينة.

تسعى الحكومة الإسرائيلية من خلال سياستها المتمثّلة في اغتيال قادة المقاومة إلى تحقيق تصورها بأنّ القضاء على الأفراد يمكن أن يؤدّي إلى تقويض الحركة المقاومة برُمّتها. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية تُظهر تجاهلا عميقا للواقع المعقّد الذي يواجه القضية الفلسطينية، حيث إن المقاومة ليست مجرّد ظاهرة تتعلّق بشخص، بل هي نتاج احتلال مقيت وأطول في التاريخ الحديث، تزامنا مع ظروف تاريخية واجتماعية ودينية وسياسية عميقة تتجاوز الأفراد.

أحد الأمثلة الدالة على ذلك هو رئيس المكتب السياسي لحركة المقامة الإسلامية حماس، يحيى السّنوار، الذي كان مستهدفا في محاولات الاغتيال الإسرائيلية، والشيء الذي لم تحسب إسرائيل له حسابا هو أنّ استشهاد السّنوار جعل منه رمزا وأيقونة في تاريخ المقاومة في العالم وليس في فلسطين والعالم العربي والإسلامي حصرا.

الصور التي تم تداولها بعد استشهاد يحيى السّنوار مُشتبكا عصفت بالقيادة الإسرائيلية وجيشها الهادف إلى إضعاف المقاومة واحباطها عبر قتل قائدها، وبدلا من هزّ صورته وتقويض المقاومة من خلاله، آل السّنوار ضميرا حيّا ومضربا للمثل بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وروح مقاومة ومُلهمة عابرة للقارات.

تُعدُّ هذه الاغتيالات جزءًا من حملة إسرائيليَّة بائسة أوسع تهدف إلى إضعاف المقاومة الفلسطينيَّة وتعزيز السيطرة الإسرائيليَّة على الأرض، وهو ما ينسجم مع رؤية نتنياهو للشرق الأوسط الجديد.

 تسريبات هآرتس حول الخصخصة في غزّة

في سياق التوسُّع الاستيطاني الإسرائيلي على أراضي الفلسطينيين، تسعى حكومة نتنياهو إلى تحقيق استراتيجيات تتضمَّن السيطرة على مساحات واسعة في الضفة الغربيَّة وقطاع غزّة. في هذا الصدد، تتكشَّف خططٌ جديدة تعكس نوايا إسرائيليَّة أعمق لإعادة تشكيل المشهد السياسي والعسكري في المنطقة.

في مقال نشرته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2024، كشفت الصحفية «نوا لانداو» عن تسريبات خطيرة تؤكِّد أنَّ نتنياهو يسعى لخصخصة الحكم في غزّة. ووفقًا لهذه التسريبات، فإنَّ الخطة تهدف إلى نقل السيطرة المدنيَّة في قطاع غزّة إلى شركات خاصّة مثل شركة «GDC» الإسرائيليَّة – الأمريكيَّة، وهي شركة لها تاريخٌ طويلٌ في العمل بالمناطق التي خضعت للاحتلال، مثل العراق وأفغانستان.

يأتي هذا في إطار سياسة إسرائيليَّة قديمة تستهدف إبعاد المسؤولية القانونيَّة والأخلاقيَّة عن إسرائيل عبر تسليمها إلى شركات خاصّة ذات مصالح ماليَّة، بما يُؤدِّي في النهاية إلى تقويض السلطة الفلسطينيَّة ومنعها من استعادة السيطرة في القطاع.

وتشير «لانداو» في مقالها إلى أنَّ هذه الاستراتيجيَّة تعتمد على تدمير البنية التحتيَّة، وتهجير السُكّان، وخلق مواقع عسكريَّة جديدة، مما يجعل المنطقة تواجه مستقبلا مليئا بالفوضى والاستيطان، وهو ما تعتبره «وصفة مؤكّدة للكارثة القادمة».

الحاجة إلى موقف عربي موحَّد

إنَّ ما يحدث اليوم في غزّة والضفة الغربيَّة من قصف متواصل، وعمليات قتل ممنهجة، وتدمير للمدن، يشكِّل صورةً قاتمة عن إبادة جماعية في عصر الحقوقية وانتهاكات حقوق الإنسان التي يجب أن تقف أمامها الدول العربيَّة والعالمية وجميع أحرار العالم.

إنَّ الفظائع التي تُرتكب بحق الفلسطينيين، من أبادة وقتل بالتجويع وتهجير قسريّ إلى تدمير كامل للبنية التحتيَّة؛ لا يقف خلفها حرب تقليدية، بل هي جرائم حرب ضدّ الإنسانيَّة؛ تتطلَّب تحركً عاجلا وجادّا من المجتمع الدولي.

يجب على القادة العرب أن يُدركوا أنَّ السكوت عن هذه الجرائم يُعدُّ بمثابة تواطؤ صريح، وأنَّ الوحدة العربيَّة يجب أن تتجاوز الشعارات لتتحوَّل إلى خطوات فعليَّة لدعم الشعب الفلسطيني، لا بل أصبح تشكيل جبهة عربيَّة متضامنة ضرورة مُلحّة، تعبِّر عن موقف حازم ضدَّ الاعتداءات الإسرائيليَّة والقتل اليومي، وتُعزِّز من الجهود الرامية إلى تقديم الدعم الإنساني العاجل وإنهاء الحرب الدامية، وتبنِّي حلول سياسيَّة شاملة تُعيد الحقوق الفلسطينيَّة وتضمن لهم تحقيق العدالة.

إنَّ التصدي لهذه الأزمات يتطلَّب إرادةً سياسيَّة حقيقيَّة، واستراتيجيَّة موحَّدة تحمي الأمن القومي العربي وتؤكِّد على أنَّ فلسطين ليست مجرَّد قضية شعب مضطهد، بل هي رمزٌ للكرامة الإنسانيَّة، وحقٌّ الفلسطيني في العيش على أرضه وتحت سيادته بسلام وأمان.

بقاء الدول العربيَّة متفرّجة على مأساة إنسانيَّة بهذا الحجم عار لن يمحيه التقادم.

ahmad.omari11@yahoo.de

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى