#كرنفال #الصور_الانتخابي إذ يكشف #هشاشة بنياننا المدني والمجتمعي
كتب د. #عبدالحكيم_الحسبان
لن يجانب أحدنا الصواب إذا قال بأن ما من دليل أو مظهر يشير إلى أن الاردنيين يعيشون هذه الايام حالة أو جوا انتخابيا أكثر من تلك الالاف المؤلفة من الصور الفوتوغرافية التي باتت تقع عليها أعين الاردنيين أينما تلفتت. ففي موسم الانتخابات الذي نعيش، لا شيء في ايقاع الحياة اليومي الذي يعيشه الاردنيون تغير باستثناء هذا الكرنفال الفوتوغرافي غير المسبوق، وحيث صور مترشحي الانتخابات النيابية باتت ملء العين والبصر. والحال، فإن عدد الصور غير المسبوق الذي تمت طباعته، كما حجمها، كما نوعية الصور التي اتاحتها التكنولوجيا الرقمية الحديثة تفتح للباحث والدارس الكثير من مسارات البحث والتحليل، وان كنت في هذه المقالة لن اتطرق الى الجوانب التتقنية الرقمية في هذه الصور، كما لن أتطرق إلى حجم المخاطر على السلامة العامة لمن يسيرون على الطرق أو بالقرب منها التي زادتها هذه الصور.
في هذا الكرنفال الفوتوغرافي الانتخابي لا أجدني مهتما بالعنصر التقني أو التكولوجي الذي تعكسه هذه الصور وألوانها الزاهية والبهية، ولكن كرنفال الصور هذا يقول الكثير الكثير عن مجتمعنا، وعن السياسة فيه، كما عن تطوره البنيوي ومستوى الحداثة والتحديث فيه. ومن يتمعن في كرنفال الصور هذا يمكن أن يدرك الكثير من الديناميات الخاصة التي تعمل في هذا المجتمع وتحرك السياسة فيه. فالصور تتشابه كثيرا فيما تشتمل عليه من محتوى، كما تتشابه في طريقة تقديمها للمترشحين. وهي تشتمل على رسم ضوئي فوتوغرافي للمترشح، اضافة لاسمه الشخصي مسبوقا بلقب مهني أو علمي في كثير من الاحيان، مختتما باسم عشيرته أو عائلته. كما تشتمل الصورة على رقم القائمة الحزبية التي ينتمي اليها إن كان مترشحا ضمن القوائم الحزبية. وفي حالات عديدة قام بعض المترشحين باضافة شعار أو عبارة تتسم بالعمومية الشديدة، أو جملة خطابية التقطها من الخطاب الاجتماعي العام، ونالت اعجاب المرشح فاضافها تحت او فوق رسمه الفوتوغرافي. بعض المترحشين لم يجد ما يكتبه تحت صورته سوى اضافة اسم نجله البكر كي يخبر الناس أنه “ابو معن” أو “أبو خالد”.
تشي كثرة الصور وعدد النسخ المطبوع منها كما تميزها على صعيد اللون والوضوح، كما يشي حجم الانفاق والاستثمار في طباعة الصور أن الصورة الفوتوغرافية باتت في عرف الكثير من المرشحين هي الاداة الاهم التي يعول عليها في الوصول إلى جمهور الناخبين، بل لا ابالغ اذا قلت أنه وبالنسبة لكثير من المترشحين فأن الصورة وما اشتملت عليها من كلمات قليلة مثلت الاداة الوحيدة لديه في الوصول إلى جمهور الناخبين الذي يطمح في الوصول اليه. صحيح أن المثل الصيني سبق وأن قال أن الصورة هي خير من الف كلمة، هذا يصح حين تكون الصورة تلتقط حدثا جرى أو واقعة سجلتها الكاميرا، ولكن في حال العملية الانتخابية فإن التعويل على الصورة والرسم الفوتوغرافي للمترشح يعكس حجم الازمة البنيوية التي نعيشها، كما يعكس مستوى الحداثة والتحديث الذي فاتنا، وما زلنا نحتاج اليه.
منطق الاشياء يقول أن كرنفال الصور هو لشخوص أردنيين قرروا أنهم يودون خوض غمار العمل العام، أي أنهم قرروا أن يحيلوا أنفسهم من شخوص يعملون في خدمة أنفسهم وعائلاتهم وأبنائهم، إلى أشخاص عموميين، أو بالاحرى إلى خدم عموميين. وهم من أجل هذه الغاية ترشحوا كي يحصلوا على قرار وتفويض من الجماعة والمجتمع الكبير بأنهم المفوضون حصريا كي يقوموا بوظيفة الخدم العموميين للصالح العام وبما يحقق أهداف الجماعة الاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية. وهنا تكمن معضلة ما يطرحه كرنفال الصور وما تشتمل عليه الصور من محتوى. فالصور لا تخبرنا إلا عن ما هو شخصي في كل مترشح، ولا تخبرنا الصور مطلقا عن ذلك الجزء من شخصية المترشح التي تثبت أهليته وجدارته في العمل العام وفي الخدمة العمومية لاهداف الجماعة.
في صور المترشحين ترى اسم المترشح، واسم عائلته ولون ربطة عنقه وربما ترى تدينه أو دينه، ولكنك لا ترى مطلقا تلك الكتلة من شخصه المتعلقة بالخدمة العمومية. ففي صور المترشحين لم نر صورة لمرشح التقطت وهو يدافع مثلا عن قضايا المزارعين في الاغوار أثناء اعتصام لهم، وحيث اسفر نضال المترشح عن تحصيل مجموعة من المكاسب للمزارعين ارتبطت في ذهن الاردنيين بهذا المترشح. وفي صور المترشحين لم أر صورة لمترشح التقطت في الميدان وهو يمارس التحشيد من أجل بناء شبكة نقل عام تجنب البلاد خطرا وجوديا بات داهما. وفي كرنفال الصور لم اشاهد صورة لمرشح التقطت له وهو يخوض نضالا ميدانيا أو حتى تشريعيا من أجل تشريع نجح في فرضه تضمن حقوقا في التعليم أو الصحة أو العمل للاردنيين. وفي الصور الكرنفالية، لم ارى صورة لمرشح يسوق فيها لانجاز وطني تاريخي إن كان على صعيد الصراع مع الصهيوني الطامع أو على صعيد سن تشريع يحمي البيئة أو الصحة أو السلامة العامة لمواطني هذه البلاد.
في المجتمعات الحديثة، يسوق المترشح نفسه للناخبين من خلال كم الانجازات التي قام بها في سني شبابه وكهولته وهو يخدم الوطن والصالح العام. ومن العادي أن يسوق بعض المترشحين الغربيين لانفسهم من خلال مشاركتهم في حروب وطنية شاركوا بها، أو من خلال نجاحهم في سن تشريع يحمي اللغة الفرنسية من تغول اللغة الانجليزية مثلا، وبحيث بات هذه التشريع مرتبطا باسم هذا المترشح بل ويحمل اسمه. ومن الطبيعي أن يقدم بعض المترشحين انفسهم من خلال وقوفهم في وجه مشروع بناء مطار كانت سيهدد البيئة في المنطقة، او من خلال تصديهم لتحصيل حقوق لشريحة اجتماعية معينة.
في مجتمعات ما قبل المدينة أي ما قبل السياسة والدولة، فلا علاقات سوى العلاقات الوجاهية المباشرة، ولا روابط سوى الروابط الشخصية الملموسة. ولا شيء أمامك مرئيا سوى كل ما يشتمل عليه الشخص، ملامحه الخاصة به، كلامه ولغته التي تسمعها، أخلاقه وطباعه التي تعرفها. كل ما ترتبط بهم هم كائنات ملموسة ومرئية ومشخصة لك. انت تعرف كل أعضاء جماعتك واعضاء عشيرتك كلهم لانهم تخالطهم يوميا وتتفاعل معهم اقتصاديا واجتماعيا واتصاليا كل لحظة وكل يوم. في هذه المجتعات التي هي جماعات اكثر من منها مجتمعات، انت لا تعرف الشخص الا كحقيقة ملموسة ومرئية وعيانية. ولان هذه المجتمعات لم تعرف المدينة والدولة وبالتالي السياسة، فهي تعرف اعضائها باعتبارهم اشخاصا اي ملامحهم ولون بشرتهم وسلوكياتهم واخلاقياتهم وطباعهم المشاهدة وجاهيا.
وأما في المجتمعات التي انتقلت للدولة والسياسة، فبالاضافة للمساحة الخاصة التي تشتمل على الاسم واسم العائلة وفئة الدين والتدين، والطباع اليومية، فقد اضيفت مساحة اخرى لتلك المكونات التي يتكون منها الشخص الذي يود خوض غمار السياسة والعمل العام والخدمة العمومية. وهي مساحة عامة مشتركة وهي تشتمل على كم القدرات والخبرات والتجارب والصلاحيات التي تنتمي لشخص ما بصفته خادما عموميا. وعليه، ففي المجتمع الحديث فإن من يخوض غمار العمل السياسي يمتلك مساحتين في شخصه؛ مساحة خاصة تنتمي له وتحميها التشريعات والقوانين، ومساحة عامة مرئية وشفافة ويحق للجماعة أن تراها، وتحاسب بشأنها وتعاقب عليها إن ارتأت ذلك.
ولان المجتمع الحديث هو حديث لان شبكة الروابط التي يرتبط بها أفراده بعضهم ببعض تجعل من التشارك في الطبقة الاجتماعية، ومن التشارك في في الرؤية الامثل لادارة الدولة والمجتمع، تجعل من هذا التشارك اساسا لخوض الصراعات الاجتماعية بما فيها الانتخابات البرلمانية، فلا تخاض الانتخابات بصفتها مواجهة بين ابي معن وابي خالد، كما تخبرنا صور المترشحين في هذا الكرنفال. فالصراع في المجتمعات الحديثة هو صراع بين بنى حداثية؛ رؤية طبقة اجتماعية في مقابل طبقة اجتماعية اخرى حول ادارة الدولة والمجتمع، وصراعا بين كتلة ديموغرافية شبابية ثورية في مقابل كتلة وازنة من كبار السن المحافظين، او صراعا بين تيار اخضر يرى مخاطر التغير المناخي أولوية ينبغي التصدي لها في مقابل تيار اقتصاديوي مالي يرى في الاقتصاد هو أولوية الاولويات. والحال أنه وفي المجتمع الحديث لا تخاض الانتخابات على هيئة صورة في مقابل صور، وعلى هيئة المترشح أبي معن في مقابل ابي يوسف بل تخاض على هيئة صراعات تاريخية بين كتل طبقية أو مدنية أو ثقافية تتصارع حول رؤيتها حول الشكل الامثل لتحقيق اهداف الجماعة اخلاقيا واقتصاديا واجتماعيا.
كرنفال الصور الانتخابي يكشف الكيفية التي يخوض بها مجتمعنا كل معاركه، وحيث تخوض ذرات فردية شخصية معاركها دون وجود اطر تنظيمية سياسية أو نقابية وحيث تغيب الاطر المدنية التي يمكنها ان تنقل حركة الفرد ونشاطه من المستوى الفردي البائس إلى المستوى الجمعي الاكثر فعالية. صحيح أن جزءأ من المترشحين بات بامكانهم أن يعتمدوا ولو نسبيا على اطرهم الحزبية، ولكن هذه الاطر ما زالت محدودة التأثير بفعل عوامل تاريخية وسياسية كثيرة.
كما يثبت عدد الصور الشخصية اللامتناهي حقيقة أننا ما زلنا نتصرف كذرات فردية وحيدة ومتوحدة، ونخوض معاركنا الصغيرة منها والكبيرة كذرات متناثرة بل ومتصارعة وحيدة ومتوحدة ما يكشف عن ازمة المجتمع الكبيرة التي تراها في كل مكان في الشارع كما في السوق كما في الجامعة وحيث تغيب الكيانات الجماعية والجمعية المؤثرة القادرة على احداث التغيير في مقابل امعان بل افراط في الفردية. كما يثبت عدد الصور الهائل هذا حقيقة أننا ما زلنا مجتمعا ودولة، نخبا واشخاص عاديين نخلط بين ما هو شخصي وخاص وينتمي للحياة الخاصة في كل واحد منا، وبين تلك المساحة العامة باعتبارنا مواطنين وهي تتضخم وتزيد وتكبر عندما نتنطح لممارسة العمل العام او الخدمة العامة كالعمل التشريعي البرلماني. فالمترشح للانتخابات يخوض الانتخابات وهو غير مضطر لاخبار الجمهور عن حصيلة سجله في العمل العام، فلا يخاطب الجمهور الا من خلال صورة له مع البيانات الشخصية، وأما الجمهور فحاله ليس بأحسن، فهو ما زال يبحث في المترشح للانتخابات عن اسم عشيرته، وعن جنسه، وعن نوع علاقته بخالقة دون أدنى سؤال عن تلك الحصيلة من الخدمة العامة أو القدرة على الخدمة التي يجب أن تتوافر في هذا المترشح أو ذاك.