حادثة #تشويه عمودنا الاثري ..ووجوب الحفر معرفيا وعميقا بعيدا عن #جرش
د. عبدالحكيم الحسبان –
كان لخبر تعرض أحد #أعمدة #مدينة #جرش #الأثرية للتشويه، جراء قيام أحد الأشخاص بطلائه بمادة سوداء شوهت لون الشاهد الأثري، الذي قاوم على مدى عشرات القرون قساوة عوامل الطبيعة، كما قساوة بعض البشر ليحافظ على قوامه الجميل وعلى لونه الأبيض النقي، كان لهذا الخبر صدى كبيرا في مختلف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. الوقائع تقول أن #حادثة #التشويه هذه والتي أصابت البعض بالصدمة والغضب، لم تكن بمثابة الحادثة اليتيمة، بل هي تضاف إلى سلسلة طويلة من سلوكيات وممارسات عدوانية مختلفة الشكل والطبيعة، مورست وما زالت تمارس ضد تراث الأردن الأثري والتاريخي.
في العمق فأن الاعتداء لم يكن على تراث الأردن، وعلى تاريخ شعبه، بل كان هجوما على حاضر الأردن وزمنه الراهن، وعلى نسيجه الاجتماعي والثقافي الحاليين. ففي الأردن، لا يمكن الفصل مطلقا بين الماضي والحاضر، ولا يمكن الحديث عن تراث مات ليتركنا ويغادرنا ليحل مكانه حاضر مختلف بالمطلق عن ماضينا. وفي الأردن وفي منطقتنا فان تراثنا لم يمت بموت السلف القديم من أجدادنا، بل ما زال تراثنا يعيش فينا، وما زلنا نمارس تراثنا ونعيد انتاجه في كل يوم بل وفي كل لحظة. ففي طعامنا ولباسنا، وفي لغتنا وحكايانا التي نتوارثها، وفي تفاصيل الزينة التي نضعها في بيوتنا، وفي طقوس حياتنا الحزينة منها والسعيدة، فإن تراث أجدادنا ما زال حيا ولم يمت، وصار هو الماضي الذي نحيله ونحوله في كل لحظة إلى حاضرمعاش وواقع راهن.
في فهم حادثة #الاعتداء التي جرت في جرش، لا ينبغي التوقف كثيرا في مدينة جرش وفي تلك البقعة الجغرافية أو المكانية التي جرت فيها الحادثة الجريمة، وكأن ما حدث كان مجرد حادثة عارضة، ومجرد حدث معزول أو نزوة لشخص أو جمع من الناس أرادوا ممارسة العبث، كما أوحت تصريحات بعض المعنيين في إدارة قطاع الآثار وفي عالم الصحافة والإعلام.
وفي علاج الجريمة التي وقعت في مدينة جرش، كانت حاضرة تلك التصريحات لعطوفة مدير عام دائرة الاثار العامة، كما تصريحات بعض المسئولين الحكوميين التي لم تر في الحادثة سوى الجانب الذي ظهر منها، وهو الجانب الجرمي، ما جعلهم يستحضرون النصوص القانونية العقابية الصارمة التي تعاقب على هذا النوع من الجرائم.
وفي فهم الجرم الذي جرى بحق عمود جرش الأثري، فإن من المهم التذكير بالإحصائيات التي تحتفظ بها أجهزة الدولة الأردنية سواء في القضاء أم في الأجهزة الأمنية حول حوادث سرقات الآثار وتهريبها، وتشويهها، والإهمال المقصود وغير المقصود في المحافظة عليها التي تحدث كل عام.
الاحصائيات توثق لجرائم متواصلة ونزيف متواصل، وإن كنت لا أبخس مطلقا من حجم النوايا الطيبة التي يظهرها كثيرون من رجال الدولة، ومن عالم الاكاديميا الذي يظهرون قدرا كبيرا من النوايا الطيبة في المحافظة على أثار البلاد وتراثها.
وفي فهم الجرم الذي حدث بحق أحد أعمدة مدينة جرش، لا ينبغي التوقف في مكان وقوع الجريمة وحيث الجريمة لا تنتمي مطلقا لمجتمع المدينة الكريم، ولا للمجتمع الأردني بأسره، بل يجب المغادرة والانطلاق للحفر عميقا في تلك البنى المعرفية والمفاهيمية والعقلية والخطابية التي بنيناها على مدى عقود أو قرون، وباتت تسوغ وتسهل لكل ذلك الكم القبيح من الجرائم المرتكبة بحق الآثار والتراث، بل باتت هذه البنى المعرفية والمفاهيمية بمثابة المصانع الحقيقية التي تنتج تلك الكائنات التي تمارس التدمير والتخريب والتشويه لتراث الأردن الحضاري. وللتدليل على وجود تلك البنى المعرفية والمفاهيمية التي تحكمنا والتي تسوغ لكثير منا، ممارسة تلك العدوانية بشكلها الناعم حينا، وبشكلها الفظ حينا آخر ضد المواقع الأثرية فسوف أشير إلى تجربتين عايشتهما أثناء دراستي الميدانية والمتواصلة للعلاقة بين الأردنيين وبين تراثهم الأثري. فالحادثتان أو التجربتان كانتا مفتاحيتين في فهم طبيعة العلاقة التي نشأت وتسود بين الأردنيين وبين تراثهم وأثارهم.
فقبل أكثر من عشرة أعوام، وأثناء قيامي بعمل ميداني في أحد المواقع الأثرية الهامة جدا في شمال الأردن، قمت بتنظيم نقاش مع عشر طالبات في مدرسة تلك البلدة التي تلاصق الموقع الأثري الهام، وسبق لسكان القرية أن عاشوا لقرنين متواصلين داخل الموقع الأثري نفسه. وفي النقاش الذي قمت بإدارته مع طالبات تلك المدرسة، كان الحوار التالي:
هل تقمن بزيارة الموقع الأثري الكبير والهام المجاور لمساكنكم؟ فكانت الأجوبة في معظمها تقول؛ بأننا لا نزور الموقع، وكانت هناك أجوبة قليلة تقول نزور الموقع ولكن بشكل نادر.
فكان سؤالي التالي: من هم إذا الناس أو الجماعات التي تزور الموقع؟ فكان جواب الطالبات يقول أن السياح الأوروبيين وخصوصا الايطاليين والفرنسيين، هم من يزورن الموقع الأثري.
فكان حينها أن طرحت سؤالي التالي: ولماذا تعتقدن أن السياح الأوربيين هم من يزورون الموقع الأثري ويحبونه؟ فكان جواب الطالبات: لإن أجداد هؤلاء السياح (من اليونان والرومان) هم من بنوا الموقع الأثري الهام.
وهنا كان سؤالي التالي ليأتي بعدها الجواب الصاعق: أي أن من بنوا الموقع الأثري الذي تسكنون قربه لم يكونوا أجدادكم وأجدادنا، بل كانوا أجداد السياح الايطاليين والفرنسيين الذي يترددون على الموقع ويجولون فيه. وهنا كان التأكيد من الطالبات بالإيجاب، أي أن من بنوا مواقعنا الأثرية هم ليسوا أجدادنا.
وأما الحادثة الثانية المفتاحية، فقد تأتى لي تسجيلها أثناء زيارتي لموقع إرحاب الاثري القريب من مدينة المفرق. فالموقع يعج بكم كبير من آثار الاردن الجميلة، ويدلل على عظمة تراث سكان هذه الارض، كما على عبقريتهم في العمارة والحضارة. في البلدة هناك اثار وشواهد جميلة على عشرات الكنائس وبما يوحي أن المنطقة كانت مركزا كنسيا هاما في حقبة ما من تاريخ هذه البلاد العظيمة. وأثناء تجوالي في المكان، فان عيني لم تلحظ حينها الشواخص المكتوبة التي توثق لتراث المنطقة بما اشتمل عليه من كنائس ولكن كان هناك شاخصة كبيرة توثق لاقامة ومرور أحد صحابة الرسول الكريم من هذه المنطقة.
في الحفر معرفيا وعميقا في ما يرتكب بحق الآثار والتراث في الأردن وفي منطقتنا العربية، وحيث ما زالت صور الدواعش في سوريا والعراق ماثلة في الأذهان وهي توجه معاول الهدم بحق تلك المباني والقطع والأواني الأثرية التي لن يدرك قيمتها، إلا من قرأ تاريخ الإنسان، وعرف كم استغرقت رحلة الإنسان لينتقل من البدائية والوحشية وحيث كان هم الإنسان هو أن يجد من الطعام ما يملأ به بطنه ومعدته، وحيث لا وقت ولا عقل قادر على صنع المساكن والأدوات والأثاث، لينجح إنسان هذه الأرض أي أجدادنا في نقل البشرية كلها من ثقافة الصيد والتنقل وأكل النيئ والنوم داخل الكهوف وعلى قمم الأشجار، إلى ثقافة الزراعة والاستقرار وبناء المدن وابتداع الكتابة وتأسيس الدولة والتنظيم السياسي. من دمروا آثار العراق وسوريا كانوا يدمرون الشواهد والدليل على ما قدمه أجدادنا من سكان هذه الأرض من ابتكارات واختراعات كان هي من صنعت تاريخ البشرية كلها.
وفي الحفر معرفيا وعميقا في نمط علاقة الأردنيين بتراثهم وأثارهم، سيلحظ المراقب وبسهولة، أن ثمة بنى معرفية ومفاهيمية وعقلية وخطابية تسود منذ عقود تخلق أنماطا من القطيعة بين الأردنيين وتراثهم وتاريخهم. فمقولة، أن أجداد الأوروبيين وليس أجدادنا هم من بنوا مواقعنا الاثرية في أم قيس وجرش وعمان وطبقة فحل تبين حجم القطيعة بل والعداوة التي تشكلت بيننا وداخلنا تجاه أثارنا وتجاه تراثنا.
وهي قطيعة تتجلى في عدة مستويات. فثمة قطيعة فيزيقية ومادية بين معظم الاردنيين وبين تراثهم واثارهم وهي تتجلى في عدم التواصل بين الاردنيين ومواقعهم الأثرية والتراثية وحيث تقول الاحصائيات مثلا أن أكثر من 80 بالمئة من زوار المواقع الاثرية الأردنية، هم ليسوا من الأردنيين. وأما القطيعة الثانية فهي قطيعة معرفية، فالمكان الذي لا تزوره، لن تكون مهتما بامتلاك معرفة ومعلومات حوله وعنه وعن تاريخه، وهو ما يتضح من قلة معرفة الأردنيين بتاريخ المواقع الاثرية في بلادهم. وأما الشكل الثالث من القطيعة، فهو تلك القطيعة العاطفية التي تجعل الناس لا يحبون المكان الذي لا يزورنه، ولا يعرفون عنه، فيخلقون مشاعر سلبية وربما عدوانية تجاهه.
وأما في الحفر في أسباب هذه القطيعة المعرفية والفيزيقية والعاطفية بين معظم الاردنيين وتراثهم وآثارهم، فثمة الكثير الذي يمكن قوله. فالخطاب الذي يستعمله المختصون في الاثار وحيث تتكرر تسميات المدرج الروماني، والموقع الروماني، والموقع البيزنطي، خالطين بين الحضور الروماني في المنطقة على شكل مظلة سياسية وادارية، في حين أن سكان المنطقة كانوا على الدوام هم أجدادنا، وحيث من قام ببناء المواقع الاثرية في بلادنا هو ذلك الخليط ما بين خبرة سكان المنطقة من أجدادنا وقدر معين من التأثير الروماني واليوناني الذي وفرته المظلة السياسية والإدارية للرومان واليونان. ثمة فرق كبير بين حضور روماني على شكل سكان وديموغرافيا، وحضور روماني امبراطوري على شكل سياسة وادارة وتأثير في العمارة والثقافة.
وفي الحفر عميقا في أسباب تلك الأشكال من القطيعة مع الآثار والتراث ينبغي النظر في تلك الخطابات أو بعضها على الأقل واتخذت شكل خطابات إسلامية أو قومية أو وطنية، وكان بعضها يميل وبصورة انتقائية إلى التركيز على عناصر تراثية معينة، وتجاهل عناصر تراثية أخرى. ما ساعد على خلق انقسام وشرائح سكانية متعددة، تتباين في نظرتها للتراث والآثار، فبعض أثارنا ينبغي احترامه، وبعض أثارنا ينبغي التبرؤ منه وإهماله.
وفي الحفر عميقا في أسباب ما جرى في مدينة جرش، ينبغي التمعن كثيرا في تلك السياسة والسياسات التي يتم استنسالها في بلادنا الحبيبة على صعيد العمل الأثري وعلى صعيد إدارة القطاع الأثري وحيث بات مفهوم النشاط أو العمل الأثري يخترل في الحفريات. فالنشاط والبحث الأثري والدراسات الاثرية باتت تختزل في الحفر وفي الحفريات، وباتت الحفريات وحراستها تستنزف موازنات الجامعات كما موازنة دائرة الآثار العامة، وحيث الأردن يضم داخل طبقات ترابه ما يزيد عن مئة الف موقع أثري تعجز ميزانيات اكبر الدول وأعتاها عن الانتهاء من الحفر فيها.
ولان معظم المال المتاح في قطاع الاثار يذهب للحفر وللحفريات، فان لا مال متاح، ولا جهد كبير يبذل على صعيد أنشطة ما بعد الحفريات. فالمنطق والعلم يقولان أن عالم الآثار هو ليس مجرد شخص يحفر، كما أن مهمة من يدير الاثار في البلاد لا تقتصر على رعاية عمليات الحفر، بل أن أنشطة ما بعد الحفر من إنتاج لنصوص علمية وتحليلية تمكن من انتاج روايات وسرديات علمية لا ايديولوجية عن تراثنا واثارنا هي أكثر أهمية من عمليات الحفر نفسها. فالمنطق يقول أننا نحفر حتى نكتشف لنحلل ما اكتشفنا، ثم لننتج رواية علمية ووطنية متماسكة حول ما اكتشفناه أثناء حفرنا، ثم ننتج قصصا وافلاما وصورا وغناءا يوصل للناس وينقل لهم، وبطرق محببة لهم ما اكتشفناه نحن كعلماء للاثار في هذه المواقع التي حفرنا بها. فالعمل الأثري يبدأ وسط الغبار والتراب لينتهي بإنتاج للقصص والسرديات والرموز حول السلف والجد الذي أنتج هذه المواقع واللقى والكنوز.