نشر الكاتب البريطاني المخضرم ” #ديفيد_هيرست” مقالا طويلا عن التشابه بين #الاحتلال #الإسرائيلي و #الصليبيين في الأساليب والمطامح، مؤكدا أن السلوك الإسرائيلي يجعل من غير المستبعد أن يكون #مصير_الاحتلال مثل مصير الصليبيين في الشرق.
ويعتبر “ديفيد هيرست” أحد كبار كتاب العالم المتخصصين في الشرق الأوسط، حيث غطى أخبار المنطقة لصالح صحيفة الغارديان لمدة خمسة وأربعين عاماً. ونشر للكاتب العديد من الكتب، منها “البندقية وغصن الزيتون” و “حذار من الدول الصغيرة: لبنان ساحة المعركة في الشرق الأوسط”.
صدر الكتاب في عام 2013 عن دار الرمال للنشر
◼ ديفيد هيرست: صوت العقل في صحافة الشرق الأوسط
ورغم توقفه عن العمل الصحفي -حيث يبلغ من العمر 88 عاما- إلا أن هيرست نشر هذا المقال الطويل الذي يمثل بحسب مراقبين “وثيقة تاريخية” في تحليل السلوك الإسرائيلي وتأثيره في صناعة مستقبل الاحتلال في فلسطين. والمقال كان أصلا مقدمة لطبعة جديدة ستنشر من كتاب هيرست “البندقية وغصن الزيتون”.
نشرت الطبعة الأولى من الكتاب في 2003 عن دار رياض الريس للنشر
ورغم أن المقال/ أو مقدمة الطبعة الجديدة من الكتاب كتبت قبل السابع من أكتوبر الماضي، إلا أن الكاتب لم يغير في مضمونها عند نشرها سوى جملة واحدة، مؤكدا أنها لا تزال تعبر عن الواقع، في إشارة إلى أن سلوك الاحتلال الإجرامي سيؤدي أكثر فأكثر إلى نزع الشرعية عن دولة الاحتلال، وسيجعل فرصة أن تلقى مصير الصليبيين في الشرق أكثر احتمالا.
◼ وسائل الإعلام والطاقة النووية والسلام الفاشل: مقابلة مع ديفيد هيرست
يشار إلى أن كاتب المقال هو غير الكاتب المعروف “ديفيد هيرست” رئيس تحرير موقع ميدل إيست آي.
هل ستذهب إسرائيل على طريقة الصليبيين؟
ديفيد هيرست
في يوليو (تموز) 2023، أتممت ما كان يفترض أن يكون الطبعة الرابعة – والتحديث الثالث – من كتابي “البندقية وغصن الزيتون: جذور العنف في الشرق الأوسط”، والذي هو عبارة عن كتاب في تاريخ الصراع في الشرق الأوسط.
ثم جاء في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) هجوم حماس الدموي على جنوب إسرائيل وما نجم عنه من تطورات كارثية، سواء من الناحية السياسية أو غير ذلك من النواحي.
لكم سيكون سخيفاً ألا يتضمن تحديث كتابي حديثاً عن هذه التطورات. ولكن نظراً لصعوبة الأمر قررت العزوف عن محاولة ذلك. إلا أنني أعتقد بأن التوطئة والخاتمة للطبعة الجديدة التي أجهضت ما زالتا ساريتين وصائبتين كما هما.
إليكم التوطئة والخاتمة كما هما بلا تبديل أو تغيير فيما عدا 13 كلمة إضافية في الفقرة الأخيرة – “وها هي إسرائيل تقوم بعمل خارق للعادة في هذا السياق في غزة حالياً”.
ملاحظة المحرر: تمت كتابة ما يأتي قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
التوطئة
”هل سوف نعيش دوماً بحد السيف؟”
- ليفي إشكول، رئيس وزراء إسرائيل حينذاك، مخاطباً أعضاء حكومته المؤيدين للحرب في الثامن والعشرين من مايو (أيار) 1967.
”نعم”.
- رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، متحدثاً أمام لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست، في السادس والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) 2015.
في أواخر ستينيات القرن العشرين، طلب مني وكيل إحدى دور النشر تأليف كتاب حول تطور جديد مهم طرأ على ما بات يعتبر واحداً من الصراعات الأطول أمداً والأخطر أثراً في العالم، ألا وهو الصراع بين العرب واليهود في الشرق الأوسط.
كان ذلك التطور هو نشأة حركة “المقاومة” الفلسطينية، المتمثلة في حركة فتح بقيادة ياسر عرفات ومعها لفيف من المنظمات الأصغر حجماً والأقل شأناً، والتي مازالت بعض بقاياه موجودة تعمل حتى يومنا هذا، ولكن بأشكال مختزلة ومتضائلة.
كانوا يعتبرون أنفسهم مناضلين يقاتلون من أجل الحرية، لديهم تصميم على ”العودة” عبر “النضال المسلح” إلى أرض آبائهم وأجدادهم، فلسطين. سماهم الإسرائيليون “إرهابيين” عازمين على “تدمير” دولتهم الوليدة حديثاً. وبالفعل، كانوا بكل وضوح “إرهابيين” في جل ما قاموا به من أعمال.
ولقد هزوا العالم بأسره عندما قاموا في واحد من أشهر الأعمال الإرهابية وأكثرها إبهاراً على الإطلاق بأخذ رهائن وقتل أحد عشر رياضياً إسرائيلياً في دورة الألعاب الأولمبية التي نظمت في ميونيخ في عام 1972، معززين بذلك عقيدة غربية سائدة تكاد تكون عالمية في أبعادها، مفادها أن الإسرائيليين في هذا الصراع هم الصالحون بينما الفلسطينيون والعرب هم الطالحون.
ما مارسوه من عنف كان بمثابة العنوان الفرعي لكتابي، أما جذور ذلك فتتمثل أساساً في العنف الذي يمارسه الطرف الآخر.
تطلب سرد ذلك كله مني أن أنطلق من الهزات التحذيرية الخافتة التي كانت في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر – مروراً بالشجارات المتصاعدة بين الفلاحين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود الذين وصلوا من توهم إلى البلاد خلال السنين الأولى من القرن العشرين، والاضطرابات المجتمعية التي شهدتها عشرينيات ذلك القرن، ثم الحملات الإرهابية التي شهدتها الثلاثينيات والأربعينيات سواء من قبل العرب ضد اليهود أو من قبل اليهود ضد العرب وضد سلطات الانتداب البريطاني، ثم طرد العدد الأكبر من السكان الفلسطينيين في الفترة ما بين 1947 و 1948 وإخراجهم من ديارهم – إلى النوبات الزلزالية التي أحدثتها الحروب الأربعة التي نشبت بين العرب وإسرائيل خلال الخمسة والعشرين عاماً الأولى من عمر إسرائيل.
التحديث الأول: 1976-1983
شهدت هذه السنون السبع أول اتفاق سلام يتم إبرامه في الشرق الأوسط بين إسرائيل وأقوى جيرانها، مصر، في عام 1979، والذي ما لبث أن تبعه قيام إسرائيل بغزو أضعف جيرانها، لبنان، في عام 1982، وطرد الفدائيين التابعين لياسر عرفات منها.
وشهدت تلك الفترة ما بات يعرف ببساطة تامة في الشرق الأوسط – تماماً مثلما هو حال معسكر الإبادة بيرجين بيلسن أو بابي يار في أوروبا – باسم صبرا وشاتيلا، مذبحة الإبادة الجماعية التي ارتكبتها قوات الكتائب، وهي مليشيات مسيحية لبنانية، تحت سيطرة إسرائيل وتحت سمع وبصر جيشها، ضد النساء والأطفال والرجال المسنين الذين تركهم الفدائيون الذين غادروا لبنان خلفهم مكشوفين بلا حماية على الإطلاق، داخل مخيمات اللاجئين في بيروت التي تحمل نفس الاسم.
التحديث الثاني: 1984- 2002
يشتمل ذلك على ذكر أول انتفاضة غير عنيفة ينطلق بها سكان الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين من قبل إسرائيل، والتي أمر فيها إسحاق رابين، الذي أصبح فيما بعد رئيساً لوزراء إسرائيل خلال الفترة من 1992 إلى 1995، جيشه بقمع الناس من خلال “تكسير عظامهم” – بحضور المسعفين الطبيين لضمان ألا يفضي ذلك إلى ضرر “غير قابل للإصلاح” أثناء كسر العظام.
ويتضمن ذلك ما صدر عن ياسر عرفات على الملأ جهاراً نهاراً من توبة وتعهد “بالتخلي عن الإرهاب”، بدون أن يقابل ذلك بأي نزوع إسرائيل، ناهيك عن التعهد، بتقليص العنف “الدفاعي” الهائل وغير المتكافئ من جانبها.
بالإضافة إلى ذلك، فقد اشتملت هذه الفترة على إبرام اتفاقيات أوسلو، ذلك الاختراق الدبلوماسي الذي كان من المفروض أن يؤدي، عبر انسحاب إسرائيلي من المناطق المحتلة، إلى تسوية نهائية للصراع تقوم على حل الدولتين.
ولكن ما كان لتلك التسوية أن تتحقق وقد تحول المستوطنون إلى ممارسة العنف والإرهاب، ضد الإسرائيليين الآخرين كما ضد الفلسطينيين، احتجاجاً على التسوية أو سعياً لتقويضها – وكان من بين ما فعلوه اغتيال رابين، الذي أطلقوا عليه لقب “خائن أوسلو”، كما أنه كان من بينها ما فعله باروخ غولدستين، الطبيب الإسرائيلي الأمريكي، الذي فتح نيران مدفعه الرشاش على المصلين المسلمين داخل المسجد الإبراهيمي في الخليل فقتل تسعة وعشرين منهم. لم يترك تبجيل الإسرائيليين له شيئاً، بما وصل إليه ذلك من انتشار وكثافة في طول البلاد وعرضها، لذلك التوقير الذي يضفيه الفلسطينيون بشكل راسخ على إرهابييهم هم وعلى “شهدائهم”.
وشهدت تلك الفترة كذلك صعود حركة حماس، الخصم الإسلامي المنافس لحركة فتح التي لم تعد تمارس العنف. كما أنها شهدت اندلاع أول موجة كبيرة من التفجيرات الانتحارية التي غدت واحداً من الاختصاصات المريعة للحركة. وشهدت تلك الفترة أيضاً اندلاع الانتفاضة الثانية التي اتسمت بالعنف الذي لم يدخر آرييل شارون، الذي تجسد فيها العنف الإسرائيلي المتطرف، وسعاً في استفزازه عن عمد وسبق إصرار حتى يتمكن من سحقه سحقاً مبرماً – وبذلك يتمكن من القضاء على كل فرص السلام الذي بشرت به اتفاقيات أوسلو.
التجديد الثالث: 2003-2023
افتتح هذا التجديد بأول عمل مذهل في تاريخ عنف إسرائيل، والمتمثل في حمل الآخرين على القيام بما ليست هي أهلاً للقيام به بنفسها، وكان ذلك العمل هو حرب العراق.
لم يشارك جندي إسرائيلي واحد في تلك الحرب، ومع ذلك فقد كانت إلى حد كبير، بل وبشكل رئيسي، بالنيابة عن إسرائيل، إن لم يكن بتخويل مباشر من قبلها، وذلك حينما قامت الولايات المتحدة (ومعها حليفتها بريطانيا) في شهر مارس (آذار) من عام 2003 بغزو واحتلال أرض عربية عتيقة، وذلك من أجل الإطاحة بالنظام الحاكم فيها آنذاك وتنصيب نظام جديد تماماً مكانه، من المفترض أن يكون مواليا للولايات المتحدة، بل وربما مواليا لإسرائيل نفسها.
لربما كان ذلك مثلاً خارقاً للعادة للدلالة على موقف واشنطن التاريخي الداعم لإسرائيل بشكل يكاد يقترب من الخنوع لها، لدرجة أن الإسرائيليين يعتبرون ذلك الدعم واحداً من ركنين اثنين أساسيين لابد لهما من أجل بقاء بلدهم على قيد الحياة وضمان مستقبلها في بيئة الشرق الأوسط المعادية، والتي هي من صنع يديها. وأما الركن الآخر، فهو بالطبع ذراع إسرائيل اليمني القوية للغاية – والتي هي موضوع هذا الكتاب.
لقد عادت حرب العراق بالكارثة على جميع المشاركين فيها، بنسب متفاوتة، ولكن ليس بالنسبة لإسرائيل، التي كم أمتعها أن ترى تحطيم دولة عربية معادية وذات قوة كامنة. كما لم تكن كارثية بالنسبة لإيران، ذلك العملاق الآخر من أعداء إسرائيل “في أقصى الأرض”. والآن تحيك إسرائيل المؤامرات، ولسوف تستمر على ذلك لسنين عديدة قادمة، من أجل ضمان أن تتوجه الولايات المتحدة نحو حرب مع إيران في حالة ما لو اقتربت من حيازة أسلحة نووية تمكنها من تحدي ما لديها هي من ترسانة أسلحة نووية ضخمة، كانت هي نفسها قد حازت عليها بطرق غير مشروعة وعبر الاحتيال.
أما بالنسبة لأعداء إسرائيل الآخرين “في أدنى الأرض” على مدى ما يزيد عن عشرين سنة قادمة، فقد واجه أحد أقوى جيوش الأرض قاطبة بعضاً من المتاعب في التعامل مع هؤلاء. يتكون هؤلاء من حفنة من الكيانات غير التابعة للدولة، وأبرزهم حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني المدعوم من قبل إيران، وكلاهما يتبنيان “المقاومة” ضد الدخيل الصهيوني، وهي المقاومة التي تخلت عنها جميع الدول العربية، بما في ذلك حركة فتح برئاسة ياسر عرفات.
بالإضافة إلى الحرب “الكبيرة” التي شنتها إسرائيل ضد حزب الله في عام 2006، قامت كذلك بشن سلسلة لانهائية من الحروب “الصغيرة” على قطاع غزة، معقل حركة حماس، وأطلقت على هذه الحروب مصطلح “تهذيب المساحة الخضراء” أو “قص العشب”، وكأنما الحرب مهمة روتينية لا تنقضي أبداً، وكما لو أنه لا يمكن لأمة من الأمم، على الأقل طبقاً لما صرح به نتنياهو، أطول من أمضى زمناً في منصب رئيس الوزراء في إسرائيل، إلا أن تعيش إلى الأبد بحد السيف.
ومن يعيشون بحد السيف لا مفر، كما تقضي بذلك القاعدة المفترضة، من أن يموتوا بحد السيف. وهذا هو المصير الذي آل إليه أمر الصليبيين الذين سبقوا الإسرائيليين إلى هذه الأرض في القرن الحادي عشر الميلادي. ولا يخفى على مراقب ذلك التشابه الكبير بين المغامرة الملحمية التي خاضتها المسيحية في القرون الوسطى وتلك التي تخوضها الصهيونية في يومنا هذا: ليس فقط من حيث الطبيعة التكوينية والأهداف والوسائل المستخدمة لتحقيقها، بل وكذلك من حيث ما آلت إليه في واقع الأمر صراعاتهم مع دول وشعوب هذه المنطقة.
”القلق الصليبي”
في العموم، يرفض الإسرائيليون بسخط التهمة السائدة الموجهة إليهم في مختلف أرجاء العالم العربي والإسلامي، ومفادها أنهم صليبيو هذا الزمن. ولكنهم إذ يرفضون التهمة، فإنما يفعلون ذلك انطلاقاً من اعتبارات معنوية فقط لا غير، باعتبار أن قضيتهم، أي عودة الشعب المنفي والمنكل به إلى وطنه التاريخي، لا يمكن بحال مقارنتها بالغزو الإمبريالي للمتشددين من أتباع الكنائس في القرون الوسطى.
ولكنهم، ولأسباب واضحة، يعيرون اهتماماً خاصاً بتاريخ الصليبيين وبتجربتهم، ولا أدل على ذلك من أنهم أقاموا في إسرائيل مركزاً هاماً يختص بدراسة الصليبيين. ما من شك في أن ما يطلق عليه العالم المختص ديفيد أوهانا مصطلح ”القلق الصليبي”، أو “التخوف المرضي الخفي” من أن “المشروع الصهيوني” قد “ينتهي إلى دمار” شامل، تماماً كذلك الذي حصل مع الأسلاف الصليبيين، غدا جزءاً لا يتجزأ من الحالة النفسية الإسرائيلية – أو على أقل من الحالة النفسية لأولئك الذين لديهم وعي كامل بهذه التطابقات التاريخية الخطيرة. كما يشير إلى أن آفاق القنبلة النووية الإيرانية لا تفعل شيئاً إزاء التهدئة من هذه المخاوف.
من ضمن تلك التشابهات، لا أقل من حيث الأهمية المبدئية لدى الصليبيين والصهاينة على حد سواء من ذلكما العاملين الأساسيين المذكورين آنفاً: تحقق المهارة العسكرية العالية وضمان الدعم من القوى الأجنبية.
في حالة الصليبيين، وطوال مائة واثنين وتسعين عاماً قضوها في الأرض المقدسة، كان الدعم يأتيهم بشكل رئيسي على هيئة ما يبدو أنه موارد لا تنضب من الصليبيين الجدد يقودهم الملوك والأمراء وكبار النبلاء في أوروبا الإقطاعية. وفي حالة الإسرائيليين، يأتي الدعم بشكل رئيسي من النعم – على شكل مساعدات عسكرية سنوية تصل إلى ما يقرب من ثلث ما تقدمه واشنطن من مساعدات إلى العالم قاطبة وعلى هيئة دبلوماسية متحزبة بالغة السرف – التي تغدقها عليهم القوة العظمى الأمريكية.
لقد كان التراجع فيما كان يرد من دعم خارجي وليس فقدان المهارة العسكرية هو ما أدى في نهاية المطاف إلى سقوط الصليبيين.
ويمكن أن يحصل الشيء نفسه مع الإسرائيليين كذلك.
ولكن المفارقة، وعلى النقيض مما آل إليه الأمر في حال الصليبيين، ما قد يتسبب في سقوط الإسرائيليين هو ما يمارسونه من عنف. فعلى سبيل المثال، كلما خرج الجيش الإسرائيلي يريد “قص العشب” في غزة، فإنه يثير الاشمئزاز والسخط في أرجاء العالم بسبب ما يتكون منه ذلك العشب – فعملية القص لا تستهدف أبداً “الإرهابيين” الفلسطينيين، وإنما تستهدف رجالاً من غير المحاربين ونساءً وأطفالاً، يتعرضون للدفن تحت أنقاض بيوتهم التي تحولت إلى رماد.
وهذا فقط هو واحد من الأشياء الأكثر صدماً للناس، وبشكل دوري. وثمة أمور أخرى تدفع الناس بشكل متزايد نحو الارتياب في نزاهة الدولة اليهودية، بل وحتى التساؤل حول مدى شرعيتها.
الخاتمة
”لن يسمح بمس شعرة واحدة في رأس أي منهم.”
هذا ما قاله حاييم وايزمان، رجل الدولة العظيم في الصهيونية المبكرة، وذلك على أثر ما أحرزه من نصر دبلوماسي، على هيئة وعد بلفور، الذي كان قد حصل عليه من حكومة بريطانيا العظمى في نوفمبر (تشرين الثاني) 1917. كان حينها يتحدث عن السكان العرب في فلسطين، والذين على أراضيهم أقيم ”الوطن القومي للشعب اليهودي” بدون “إجحاف” إزاء تلك “المجتمعات غير اليهودية.”
وكان “على ثقة تامة”، كما قال فيما بعد، من أن “العالم سوف يحكم على الدولة اليهودية بناء على ما سوف تفعله مع العرب.”
ولكن الملاحظ هنا أنه في خطابه أمام مؤتمر باريس للسلام ما بعد الحرب في عام 1919 لم يشرح كيف يمكن بالضبط لعملية تحويل فلسطين إلى دولة ”يهودية كما أن إنجلترا إنجليزية” – بحسب وصفه للمشروع الصهيوني – أن تتم بدون إلحاق ضرر بشعرة واحدة في رأس أي واحد من الفلسطينيين.
أحد الحضور في المؤتمر، ممن كانوا أكثر شهرة وأعلى تأهيلاً، ما كان ذلك ليحوز إعجابه. إنه العقيد تي إي لورانس، الشهير باسم لورانس العرب، والذي تكهن بعد أن التقى بوايزمان وجهاً لوجه، بأن ما كان يسعى إليه في الحقيقة هو “فلسطين يهودية بالكامل” خلال خمسين عاماً – والتي ما لبثت أن تحققت له بعد ثلاثين عاماً فقط بفضل ما قدمته له المحرقة من عون.
لا مفر بذلك إذن من أن يكون أي تاريخ موضوعي للصهيونية تاريخاً أيضاً لذلك الضرر الهائل الذي وقع – على نفس خطى الصليبيين بالضبط تقريباً – وحل ليس فقط بسكان فلسطين وإنما أيضاً بالشعوب والدول الأخرى في المنطقة.
ولكن، وكما حصل، وعلى النقيض من توقعات وايزمان، لم “يحكم” العالم على إسرائيل، ناهيك عن أن يعاقبها، أو لنقل تلك الأجزاء منه، بشكل أساسي الولايات المتحدة والغرب، التي يعتبر حكمها مهماً.
الخطيئة الأصلية
خذ بالاعتبار أفعال إسرائيل الأولى، في مرحلتها التكوينية الأهم، والمشابهة في مدى إهلاكها وشناعتها لما صدر عن الصليبيين من أفعال – أو ما يمكن أن يوصف بأنه “خطيئتها الأصلية”، والتي يعود الفضل في وجودها اليوم إليها.
وفي عام 1099، قامت مملكة القدس المسيحية على أنقاض ما نجم عن واحدة من ”أعظم الجرائم في التاريخ”، تلك المذبحة التي ارتكبت بحق جميع سكان المدينة المقدسة من مسلمين ويهود. بعد ثمانية قرون ونصف، في الفترة من عام 1947 إلى عام 1948، ولدت إسرائيل من خلال “جريمة ضد الإنسانية” تشبه ذلك من حيث الجسامة والفظاعة. أو، لنقل على الأقل إنه لو كانت مادة القانون الدولي الخاصة بذلك الجرم مفعلة آنذاك، ولو كان يتوفر لدى أحد الإرادة للمطالبة بتطبيقها، لكان مؤكداً أن النكبة الفلسطينية – التطهير العرقي والطرد، باستخدام القوة والإرهاب وكثير من الفظائع التي مورست ضد تلك “المجتمعات غير اليهودية” – كانت ستعتبر جريمة ضد الإنسانية بالفعل.
لم يكن ثمة وجود لمثل هذه الإرادة، على الأقل ليس لدى الجماهير الغربية، ناهيك عن أن تكون موجودة لدى حكوماتهم، وبالذات حكومة واشنطن. ففي الولايات المتحدة كان التعاطف مع اليهود الإسرائيليين في أوجه، في خضم الاحتفال بتحقق “الحلم النبيل” (كما سماه ذات يوم أبراهام لينكولن).
وهناك أيضاً، كان السياسيون والصحفيون والأكاديميون يجازفون بالتعرض للعقوبة، وأحياناً بأن يحل عليهم سخط مؤسسة مهيبة مروعة، هي اللوبي الإسرائيلي، فيما لو شذوا عن النهج المتوافق عليه والذي غدا بمثابة المقدس. من الذين جازفوا، وكادت تصلب عقاباً لها على ذلك، دوروثي تومسون، والتي ربما كانت أشهر صحفية والأكثر إثارة للإعجاب في زمنها، والتي قالت عن الدولة حديثة الولادة إنها “وصفة لحرب مستدامة.”
وهكذا أثبت الإسرائيليون أنهم مثل الصليبيين تماماً. لقد أمضى فرسان مسيحية القرون الوسطى 192 سنة وهم يخوضون باستمرار المعركة تلو الأخرى مع هذه أو مع تلك المملكة أو السلطنة في الشرق الأوسط العربي المسلم، والذي كان حينذاك كما هو اليوم يعاني من التمزق والشقاق الداخلي، إلى أن فقد الصليبيون الدعم الغربي فانتهى بهم الأمر وقد ألقي بهم حرفياً إلى البحر.
وكذلك تماماً كان ديدن الإسرائيليين، الذين يخوضون منذ خمسة وسبعين عاماً وحتى الآن ما تطلق عليه عقيدتهم العسكرية الرسمية “الحروب” أو وهم يشنون ”الحملات ما بين الحروب.”
الغزو والتوسع
بادئ ذي بدء – بالنسبة للصليبيين والإسرائيليين على حد سواء – كانت مثل تلك الحروب حروباً غايتها الغزو أو التوسع.
ما أن تُوج بالدوين دو بويلون أول ملك على القدس، في يوم عيد الميلاد من عام 1100 ميلادية، حتى انطلق في حملة لتوسيع رقعة مملكته الصغيرة – والتي شملت في نهاية المطاف كل فلسطين كما نعرفها اليوم وأجزاء من سوريا والأردن ولبنان، كذلك، والتي أحاطت نفسها بتحصينات أمامية منيعة وبمستوطنات عسكرية زراعية، ما أشبهها اليوم بالجدران الحدودية الضخمة التي تشيدها إسرائيل وما فتئت على إقامته من قرى (كيبوتسات) زراعية وقتالية.
كان ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء في إسرائيل، عازماً على التوسع أيضاً. وهو توسع ينبغي إنجازه، كما قال ذات مرة، ليس عبر “التجمل بالأخلاق” أو من خلال “الخطب التي تلقى من على جبل الهيكل” وإنما بواسطة ”المدفع الآلي الذي سوف نحتاج إليه.”
ولكن بخلاف ما كان يمارسه أسلافه، الذين لم يعرفوا أي شيء من تلك اللطائف مثل قواعد وأخلاق الحرب، لم يكن بوسعه ممارسة الغزو والتوسع في البلدان المجاورة كما يريد. فهو ينتسب إلى أمة “تحب السلام”، حصلت لتوها، رغم ما وقع حينها من جدل وخلاف حول ذلك، على عضوية الأمم المتحدة، متعهدة بالالتزام بميثاقها.
ولا كان ذلك متوقعاً من دولة ديمقراطية على درجة عالية من التفوق الأخلاقي، تعتبر نفسها “نوراً يضيء على الأمم”، والتي قال بن غوريون مخاطباً العالم إنه يعمل في بنائها، وهي التي استقبلها معظم العالم، وبشكل خاص الليبراليون واليساريون فيه، بكثير من الترحيب والتعاطف، على اعتبار أنها، نموذج للمثل الاشتراكية “الملهمة” والتي يحتل الكيبوتس القلب منها.
كان بن غوريون ومن جاءوا من بعده يتوقون لأن يبادرهم الآخرون بهجوم. في هذه الأثناء، كل ما كان بإمكانهم فعله هو الانتظار وتحين الفرص – أو السعي لاصطناعها – من أجل مباغتة هؤلاء الآخرين بهجوم، وهي فرص بالغة الأهمية من حيث أنها تمكنهم من شن الهجوم مستترين بغطاء شرعي من ”الدفاع عن الذات.”
وحانت الفرصة المواتية أخيراً في شهر يونيو (حزيران) من عام 1967، عندما بدأت الجيوش العربية، رداً على تحرشات واستفزازات من قبلها، بالسير نحو إسرائيل، وذلك في خضم صخب أحمق ومخيف من الخطاب الحربي. للوهلة الأولى ارتعد العالم خوفاً على إسرائيل، متسائلاً: هل سنشهد فيها محرقة ثانية بعد مرور خمسة وعشرين عاماً فقط على المحرقة الأولى؟
هذا محال بالطبع. فكما كان مستشرفاً، وكما تم الإعداد له منذ وقت طويل، انبرى للتعامل مع ذلك بشكل مباشر موشيه دايان، الجنرال الأيقوني الأعور، وغيره من حواريي المعلم. فقد أنجزوا في حرب الأيام الستة في يونيو (حزيران) 1967، بضربة واحدة، أهدافاً مماثلة تماماً، من الناحية الاستراتيجية والتوسعية، لتلك التي استغرق إنجازها عشرين عاماً على يد الملك بالدوين قبل ذلك بثمانية قرون – أضف إلى ذلك احتلال سيناء بأكملها. كما أنهم نفذوا نكبة مصغرة، بما تحقق لهم من موجة كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين.
وحتى هنا لم يصدر العالم حكمه على إسرائيل. بل على العكس، ارتقت بذلك، ”محبوبة الغرب المدللة”، إلى مستويات رفيعة غير مسبوقة من المكانة والشعبية.
الحكم على المشروع الصهيوني
بالعودة إلى أوجه التشابه مع الصليبيين، وجد الإسرائيليون أنفسهم يسوسون سكان البلاد الأصليين، والمكونين ممن لم يقتلوهم ولم يطردوهم، وإذا بهم يكافئونهم تعداداً.
قلما يخفق مؤرخو الحقبة الصليبية في الاقتباس من الرحالة المسلم ابن جبير في القرن الثاني عشر، وبشكل خاص توصيفه للمجتمع المسلم الذي “ينوح بسبب ظلم صاحب الأرض من نفس دينهم بينما يشيدون بسلوك خصمه وعدوه، صاحب الأرض من الفرنجة، الذي تعودوا منه أن يعاملهم بالعدل.”
لعل هذا هو الدليل القوي المتبقي من شهادة من رأى رأي العين أنه مهما كان الصليبيون همجاً ومتوحشين في المعركة، إلا أنهم ربما لم يكونوا سيئين إطلاقاً في الحكم – أو على الأقل في ما يتعلق بابتعادهم عن إنفاذ أعراف ذلك الوقت.
هل يمكن أن يقال نفس الشيء، أو أفضل منه، عن الإسرائيليين إزاء غزوهم واحتلالهم للضفة الغربية وقطاع غزة في الزمن الحاضر؟ من الناحية الموضوعية، لا يمكن ذلك. ولكن هكذا كان الانطباع العام، لأن الإسرائيليين، من طرفهم، ما فتئوا يصرون على أن احتلالهم كان “أرحم احتلال في التاريخ”، وهو الزعم الذي لم يخطر ببال العالم المستهتر التحقق منه.
فمتى كانت المرة الأولى التي يضع العالم فيها المشروع الصهيوني على المحك ويحكم عليه بعد أن احتضنه وتقبله بلا نقد أو مساءلة زمناً طويلاً؟ كما تنبأ وايزمان، جاءت اللحظة التي حكم العالم فيها على المشروع، حتى وإن جاءت بعد عقود من إشارة وايزمان إلى ذلك.
جاءت أخيراً ضمن سياق الصفة التي يشبه فيها المشروع الحملات الصليبية إلى حد التطابق، ألا وهي صفة العنف الأبدي.
لطالما خدم إسرائيل وعزز موقفها في عيون الجمهور الغربي قيامها بتسويق عنفها مقابل عنف الفلسطينيين باعتباره مكافئاً للخير في مقابل الشر المحض.
فالإرهابيون الفلسطينيون بكل بساطة ما هم سوى “متطرفون قتلة كل همهم هو قتل اليهود”، بينما الجيش الإسرائيلي – الذي أطلق على نفسه فيما بعد عبارة ”أكثر جيش أخلاقي في العالم” – يتفوق على كل من سواه من الجيوش بما يبديه من احترام لحياة المدنيين الأبرياء ومن حرص عليها.
ولكن أثناء غزو لبنان في عام 1982، لم يلبث أن مزق هذا الزعم المهترئ فلم يبق منه ولم يذر. عندما أطلق آرييل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي حينذاك، ميليشيات الكتائب المسيحية في البلد على مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا، لم يكن فقط يعرف تماماً ما الذي ستفعله هناك، بل رفض التماسات بوقف المليشيات صادرة عن الدبلوماسيين الأمريكيين، الذين من الواضح أنهم عرفوا كذلك، ولم يأبه لهم إلى أن تم الانتهاء من مهمة الإبادة الجماعية.
خيبة الأمل الغربية
كانت ردة فعل العالم كله تقريباً معبرة عن الصدمة، وإن بدرجات متباينة. أو كما عبر عن ذلك أستاذ جامعي إسرائيلي في الثمانين من عمره بأسى وحزن، حين رأي فيما حدث نسخة طبق الأصل مما جرى في غيتو بابي يار الذي ”أرسل النازيون إليه الأوكرانيين ليقوموا بذبح اليهود.” وحينها قال مراسل صحيفة ذي جيروزاليم بوست في واشنطن إن إسرائيل لم تأت بفعل أضرت به نفسها أكبر من ذلك، وخاصة في الولايات المتحدة، حليفها والمنعم المتفضل عليها فوق العادة.
صبرا وشاتيلا، وكل المغامرة العسكرية الفاشلة في لبنان – ما بات يعرف بفيتنام إسرائيل، والذي كانت مذبحة صبرا وشاتيلا ذروته الفظيعة – كان أول لوحة تشير نحو ما غدا تحولاً طويلاً وبطيئاً في الموقف الغربي الذي بات يشعر بخيبة الأمل إزاء “إسرائيل الجميلة” التي كان يتغزل بها بالأمس.
وهذا ما أوقع إسرائيل أخيراً في الخطر في عملية مشابهة لتلك التي جرت في أنحاء أوروبا المسيحية في العصور الوسطى ونجم عنها إيقاع مملكة القدس المسيحية في الخطر وانتهى بتفكيكها.
في بداية الأمر، كانت البابوية، وهي أقرب ما يكون إلى القوة العظمى في زمنها، تعظ الناس بالانخراط في الحرب المقدسة لتحرير الأرض المقدسة من حكم المسلمين الكفار، ثم بعد ذلك، وعلى مدى ما يقرب من قرنين من الزمن، رعت أو ألهمت الحملة تلو الحملة من أجل تحقيق تلك الغاية.
رغم أن الصهيونية، على النقيض من الصليبية، كانت ذاتية التولد في أصلها، إلا أن القوى الكبرى في ذلك الوقت، أولاً بريطانيا ثم بعد ذلك الولايات المتحدة، هي التي مكنتها من أن تنغرس في أرض الآخرين، وهي التي مكنتها من النمو فيما بعد مروراً بمرحلة النضج ثم البقاء على قيد الحياة وسط بيئة معادية، هي أصلاً من صنيع يديها.
لم يكن لأسباب أخلاقية، ولا من باب السخط أو الشعور بالأسى والأسف على السلوك غير المسيحي الذي كان يمارسه جنود المسيح التابعين لها، أن البابوية أخيراً سئمت وتخلت عن المشروع المهدوي بأسره. يبدو أنها لم تنزعج كثيراً، بل ربما لم يزعجها إطلاقاً، ارتكاب تلك الفظائع التي افتتح بها المشروع، أي الإبادة الجماعية في القدس – أو ما ارتكب فيما بعد من فظائع أقل، مثل الإعدامات الجماعية التي نفذها ريتشارد قلب الأسد بحق ما يقرب من 2700 أسير مسلم. كل ما هنالك هو أنها ببساطة كانت توجه اهتمامها نحو مشاغل وهموم أكثر إلحاحاً وأقرب إلى الوطن.
بكل أمانة، ما كان عالم القرن العشرين، بما فيه من قيم القرن العشرين، لينزعج بما ارتكبه خلفاء الصليبيين في القرن العشرين، ومازالوا يرتكبونه، من فظائع مشابهة، وإن لم تكن بنفس الدرجة من القبح، ضمن سعيهم لتحقيق حلمهم المشابه لحلم أسلافهم.
لقد ظلت إسرائيل تحظى بالاحترام والالتزام والاعتناء الشديد من قبل كثير من الأوساط، وبشكل خاص الحكومية والرسمية منها. أما في أوساط كثيرة أخرى، وداخل المجتمع الواسع، فما فتئت تلك المشاعر تتحول تدريجياً إلى نقيضها، إلى الانتقاد والتوبيخ أو حتى التنديد الصريح، وإلى مطالبات بإجراءات تأديبية، مثل العقوبات، وحظر السلاح، والمقاطعة الاقتصادية، وهي الإجراءات التي أسقطت نظام الفصل العنصري (الأبرتايد) في جنوب أفريقيا.
العيش بحد السيف
جمع الإسرائيليون كل هذه الإجراءات ووضعوها تحت عنوان واحد وهو “نزع الشرعية”. بالنسبة لهم، يرقى نزع الشرعية في نهاية المطاف إلى التهديد الوجودي – وهو ليس أقل خطراً، طبقاً لما صرح به نتنياهو، من تسلح إيران نووياً أو من صواريخ حماس وحزب الله.
لماذا؟ لأنه لو كان مكتوباً على إسرائيل كدولة أن تعيش بحد السيف، كما تحدث عن ذلك نتنياهو، فإنها لن تتمكن من تصميم ذلك السيف ولا الحفاظ عليه وإشهاره بفعالية بدون دعم ورضا واشنطن والغرب، تماماً كما أن الصليبيين لم يكن بوسعهم فعل ذلك بدون دعم ورضا البابوية والعالم المسيحي في القرون الوسطى.
ومن هنا فقد ألزمت الولايات المتحدة، بالقانون، بالاستمرار في تزويد إسرائيل بكل “وسائل التفوق العسكري الممكنة” حتى تتمكن من “دحر أي تهديد عسكري يأتيها من أي دولة بعينها أو ائتلاف محتمل بين مجموعة من الدول.”
الأسلحة نفسها أمر واحد فقط، وهناك أمر آخر ألا وهو الطريقة التي تستخدم بها إسرائيل تلك الأسلحة، وضمان أنه مهما كان هذا الاستخدام محرماً من حيث الغاية أو إجرامياً من حيث التنفيذ، فإنه يمكن باستمرار الاعتماد على الولايات المتحدة دعماً أو إقراراً.
ومن هنا يأتي إشهار واشنطن بشكل تلقائي وآلي لسيف الفيتو في وجه أي مشروع قرار، وهو الأمر الذي تكرر عشرات المرات عبر السنين، حتى ضد القرارات التي تضمنت نقداً خفيفاً لإسرائيل في الأمم المتحدة – وهو نفس الكيان الذي تدين له بالفضل، في حالة تكاد تكون فريدة بين الأمم، على إيجادها في المقام الأول – ومعه بالطبع “الشرعية” التي يسعى العالم الآن إلى نزعها عنها كما تخشى.
ما من شك في أنها سوف تستمر في فعل ذلك بوتيرة متنامية على الدوام. ففي كل مرة يقوم فيها “الجيش الأسمى أخلاقاً في العالم بدفن النساء والأطفال – أحياناً رفقة “إرهابي” أو اثنين – تحت البيوت في غزة، وفي كل مرة يصرح سياسي رفيع المستوى أو حاخام بعبارات عنصرية مذهلة أو بعبارات يتجمد لها الدم في العروق حول العرب أو الفلسطينيين، وفي كل مرة ينطلق فيها المستوطنون المتدينون ليرتكبوا “مقتلة”، أو ليشنوا حملة لاجتثاث أشجار الزيتون، أو في محاولة لإشعال النار ببلدة عربية بأسرها، بينما يؤدون الصلاة وهم على ذلك، فإن الضغط يزيد.
وبالفعل، فإنه في كل مرة يصعد متطرف ديني أو قومي إلى الحرم الشريف، المكان الذي يوجد فيه المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ويلقي خطبة نارية حول ابتعاث الهيكل اليهودي القديم مكانهما – في كل مرة يحدث مثل هذا الأمر، ويسمع العالم عن ذلك، فإن “الدولة اليهودية والديمقراطية” تفقد قدراً إضافياً من شرعيتها.
من الواضح أن أقرب أصدقائها يبادرون بتحذيرها، فهذا الكيان “المحبب والمدلل لدى الغرب” يجازف بالتحول إلى كيان “منبوذ” في مصاف دول مثل عدوه اللدود، الجمهورية الإسلامية في إيران.
”قيم مشتركة”
فيما عدا استثناءات ملحوظة، ذلك ما كانت عليه الأمور وسط جل الجماهير الغربية مطلع عشرينيات هذا القرن. كان ذلك مقلقاً، وما يقلق أكثر هو احتمال أن الحكومات الغربية، ولكونها حكومات ديمقراطية، من المؤكد أنها عاجلاً أم آجلاً سوف تتجاوب مع رغبات جماهيرها وستفعل ما فيه استرضاء لها.
صحيح أنه ما زال لا يوجد الكثير من المؤشرات التي تنذر بذلك، ولا يوجد بتاتاً ما يشير إلى ذلك داخل أمريكا. بل لقد سارعت الإدارات المتعاقبة، دونما أدنى تأثر بالمطالبات المتكررة بنزع الشرعية، إلى الانضمام إلى إسرائيل في القتال ضد ذلك.
في شهر يوليو (تموز) 2022، ومن داخل القدس نفسها، تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن “بمحاربة جميع الجهود التي تبذل لنزع الشرعية عن إسرائيل”، باعتبار ما بين البلدين من “قيم مشتركة” وباعتبار ما يشتركان فيه من “التزام ثابت لا يتزعزع بالديمقراطية.”
مجرد وصف إسرائيل بأنها بلد ديمقراطي أمر يخضع للجدل. وذلك أن الديمقراطية الحقيقية تضم في العادة جميع سكان الأراضي التي تتكون منها الدولة، أو – كما في هذه الحالة – تزعم الدولة أنها أراضيها.
إلا أن “ديمقراطية” إسرائيل لا تسع بأي شكل من الأشكال الأغلبية العظمى من الفلسطينيين، سكان المناطق المحتلة، وهي المناطق التي تحكمها إسرائيل منذ ما يزيد عن نصف قرن، بينما تمارس التمييز ضد الأقلية الفلسطينية الذين يسكنون داخل أراضي إسرائيل نفسها.
لك أن تتخيل مدى الإحراج والذعر الذي شعرت به واشنطن عندما قرر نتنياهو فقط بعد بضعة شهور من إعلان بايدن في القدس المضي قدماً في مشروع ”الإصلاحات القضائية” التي سوف تقوض أكثر فأكثر من النظام الديمقراطي الذي تحوم حوله الشبهات، بل وقد تقضي عليه قضاء مبرماً.
صحيح أن تلك “القيم المشتركة” المفترضة لم تكن السبب الحقيقي، أو على الأقل السبب الرئيسي، الذي من أجله تبالغ واشنطن في إغداق الدلال على “البلد المفضل لديها”. إن ذلك، كما عبرت عنه بإيجاز بليغ إلهان عمر، عضو الكونغرس المسلمة من أصول صومالية من ولاية مينيسوتا، هو “البنياميون، يا حبيبي.”
كانت إلهان عمر تشير بذلك إلى ورقة المائة دولار الأمريكية التي تظهر عليها صورة بنيامين فرانكلين، أحد “الآباء المؤسسين” للولايات المتحدة – كون الدولارات هي “العملة” الرئيسية، حرفياً ومجازياً، التي تغدق بإسراف من قبل اللوبي وأصدقائه الأثرياء جداً في شراء ذمم أصحاب النفوذ داخل واشنطن بالنيابة عن إسرائيل.
أياً كان السبب، ليس لذلك قيمة كبيرة. الشيء الغريب في هذا الأمر هو أنه من خلال نوبة تحطيم الديمقراطية هذه، فإن ما يقوم به رئيس الوزراء الإسرائيلي فعلياً هو أنه يكاد يجرد الرئيس الأمريكي مما تبقى لديه مما يظهر أنه تبرير مبدئي لتحيز بلاده – كما يراه العرب والفلسطينيون وهم محقون في ذلك – تحيزاً سياسياً نفعياً غير مبدئي لصالح إسرائيل.
وعلى أية حال، فسواء كانت إسرائيل ماتزال ديمقراطية بشكل أو بآخر أم لا، لم يعد لذلك قيمة مقارنة، بطرق أخرى، بما هي عليه حقيقة، أو بما توشك أن تصبح واقعاً.
لقد كانت نظاماً عرقياً، طالما كانت شكلاً من أشكال الأبارتيد – كما شهد بذلك زوار من جنوب أفريقيا، مثل كبير الأساقفة الراحل ديزموند توتو، المناضل ضد الأبرتايد، الذي تحدث عن “أوجه التشابه الصارخة بشكل مؤلم مع بلدي الحبيب جنوب أفريقيا” – لا يقل سوءاً إن لم يكن أسوأ مما كان ذات يوم نظاماً يحكم بلادهم.
كانت تنتحل بالتدريج صفات نظام الحكم الديني، حيث يحظى فيها الحاخامات – من النوع الأكثر تعصباً ورجعية – بالنفوذ في إدارة شؤون البلد، كما يبدو ذلك في عيون العلمانيين القلقين، الذين باتوا يشيرون إلى ما يجري بأنه تحول من قبل إسرائيل إلى نمط مشابه للنظام في إيران، حيث بدأ البلد يبدو للناظر نسخة يهودية من عالم يهيمن عليه آيات الله.
لقد كانت دولة ومجتمعاً مختطفاً من قبل آلية ظلامية من صنع أياديهم، مستوطنوها المتدينون – عبارة عن تجسد وحشي وغريب للتلاحم بين قومية ”الدم والتراب” التي تعود إلى القرن التاسع عشر، والتي كان أسلافهم العلمانيون فيها راسخين، والمهدوية اليهودية الجديدة المتشددة التي صنعوها هم، والتي قد تحتاج إلى حرب أهلية للسيطرة عليها.
ونعم، من خلال تدينها المستفحل، صارت الدولة في الواقع تبدو أقرب إلى الصليبيين أنفسهم، تسير على نهجهم ليس فقط من حيث الأسلوب – الحرب المستمرة – بل وكذلك من حيث التطلعات، ومن بين هذه التطلعات يبرز واحد أكثر من غيره باعتباره نموذج الشبه الأقرب على الإطلاق.
بالنسبة لأولئك القدامى من “المحاربين في سبيل الإله”، كانت أسمى المهام والأكثر قدسية من وجهة نظرهم هي استنقاذ كنيسة القيامة – الموقع الذي يعتقد المسيحيون أن المسيح صلب فيه، وفيه دفن، ومنه بعث حياً من جديد – من ”إفساد” وإهمال المسلمين.
على نفس النهج، بالنسبة لعدد غير معروف، ولكنه آخذ في النمو، من الإسرائيليين الذين خلفوهم – ولا يقتصر ذلك على المتدينين منهم – لا تكتمل العودة إلى صهيون إلا بقيام الهيكل الثالث، إلى جوار الأقصى وقبة الصخرة، أو محلهما بدلاً منهما، هنا في ثالث أقدس بقعة عند المسلمين.
فهل سيدرك العالم أخيراً عندما يفيق من غفوته ما الذي جلبه هؤلاء على الأرض وعلى الناس في المنطقة بعد ثلاثة أرباع قرن من تلك اللحظة التي تنبأ فيها وايزمان بأن العالم سوف يحكم على إسرائيل، وهل سوف ينأى بنفسه عن الدولة أو يتبرأ منها، تاركاً إياها للمصير الذي باتت منكشفة عليه؟
في ضوء “القيم” الحديثة، سوف يكون لدى الولايات المتحدة والغرب من المبررات ما هو أقوى مما كان لدى البابوية والعالم المسيحي في القرون الوسطى حينما تخليا عن الصليبيين في ضوء ما كان لديهم آنذاك من قيم.
إنه لأمر مستبعد بلا ريب. ولكن كلما أمعنت إسرائيل في “نزع الشرعية” عن نفسها في عيون العالم – وهي تفعل ذلك في غزة الآن – كلما تضاءل ذلك الاستبعاد، وكلما زادت إمكانية تحقق الكابوس الذي تحدث عنه أستاذ الحروب الصليبية أوهانا، والذي توقع أن يكون مصيرها مشابهاً لمصير الصليبيين أنفسهم. بالطبع لن يُلقى بها إلى البحر، ولكن، بطريقة أو بأخرى، سوف يتم حسم المصير استراتيجياً أو عسكرياً أو دبلوماسياً.