محمود درويش: الموت بقلب مفتوح/ زياد أحمد محافظة

***********
“محمود درويش: الموتُ بقلب مفتوح”*
زياد أحمد محافظة**

“أهٍ ليمهلني الموتُ حتى أصيرَ في قرطبة”.

بكلمات لوركا هذه أبدأُ حديثي، قارئاً على لسانك وأنتَ تلوّحُ مودعاً الحياةَ على سرير أبيض، ذات العبارة. نعم ذات العبارة، لكن مانحاً نفسيَ الحقََ باستبدال قرطبةَ الدامعة خلفَ تلال الزيتون، بشقيقةٍ لها تنزفُ من وجع وحرقة.. آهٍ ليمهلني الموتُ حتى أصيرَ في فلسطين.

لم يصغ لك الموت، لم يحقق لك آخرَ الرغبات وأبسطها، لم يمهل روحَكَ لتبتلَ بماء النهر، أو تسرقَ قبل صعودها الأبدي، قليلاً من تراب القرى وطيبة الأمهات.. لم يمهلك حتى تقشّر برتقالة للوطن، أو تحفظَ آخر أغاني الرعاة، وهم ينفخونَ الشوقَ في نايات القصب.

يا صاحبَ الروح التواقة للحرية، لا تجادل ملك الموت فيما يفعل، لا تجفل من يده.. غادر مطمئناً، واترك لنا ورائكَ جسداً ناحلاً، لنغرسهُ في الأرض العطشى للشعراء… والشعراء منذورون للقلق، للأرق.. للمنافي، لفوهات البنادق وغفلة البارود.. غادر مطمئناً فأنت الآن حرُ وحرٌ وحرُ.

لا أعرف كيف ألملمُ في هذا المساء أطرافَ اليقظة، لأعيدَ نسجَ وشاح نبيذي اللون، اعتادَ أن يلتف بزهو حول عنق الشعر.. كيف أمضي في حديثي عن شاعر كان أمام الحياة صافياً كما الماء، ما الذي نحتاج أن نعرفهُ أكثر، عن عاشق غمّس الوطن في سنبلة قمح.. أهو رثاء لرحيله! لا أعتقد، ولا أظنُ الرثاء مجدياً، فقد قيلَ في رحيله الكثير.

ليس تذكراً أيضاً، فالنسيانُ لا يجرؤ على الاقتراب من بهجة الشعر، تلسعهُ نارُ القصيدة فيفر مسرعاً.. لعلها ببساطة نبؤةٌ بوفاة الغربة أكثرَ منها وفاةُ شاعر.. فالغربة الممتدة باتساع الأشياء ورحابتها، والتي ما فارقت يوماً نصاً من نصوصه ولا خذلت مفردةً من شعره.. آن لها أن ترحل.

في قصائدك الماثلة إمامنا كسنديان لا يتوقف عن النمو، تجريدٌ للكلمة من حالة العظمة والإبهار، واقترابٌ من بوح البسطاء ووجعهم، في حروفك لونُ البنفسج حين ينامُ مطمئناً على خد عاشقة ملّت الانتظار، وفي صوتكَ رنّةُ اشتهاءٍ لفنجان قهوة في صباحٍ ممطر.

كنتَ شاعر الجميع دون استثناء، شاعر الذاكرة التي قُدّر لها ألا تشيخ أبداً، لم تزاحم أحدا على الحرية أو الثورة أو المنبر، لم تهجس بغير ما يجولُ في أعماقنا ونحارُ كيف نعبر عنه، ألم تقل يوماً: “لا أقررُ تمثيل أي شيء إلا ذاتي، غير أن تلك الذات مليئةٌ بالذاكرة الجماعية”. معك حق فحين تكتبُ الإيقاع اليومي للحياة، تضعُ يداً دافئةً في يد الشعر، وتخطو معه ليشي لك بما تخبئُ الشوارعُ والمنافي والأرصفة والقلوب.

درويش الذي لم يعط للشمس ظهره يوماً، منحَ الوطن مذاقاً مختلفاً، صبَّ في وهج الثورة رومانسيةً حالمة، لقّمَ البندقيةَ سربَ فراشات، وملّحَ القصيدة بماء الزهر. درويش ترك عن قصد، وجعاً دفيناً في داخل كل واحد منا؛ ترك شيئاً ساحراً في قلوب العاشقين، ترك خيطاً في كوفية مقاتل.. عطراً في المنافي، والاهمُ من هذا كله أنه تركَ لرجل سبعيني، الأملَ بأن يُدخل في ثقب التاريخ، مفتاحاً عتيقاً لا يزال لليوم في يده.

درويش أيقظَ شهيتنا للحياة، قدّم لنا الشعر كخبز ساخن، قطّر لنا رائحة الزعتر وهو يفورُ في كفوف الأمهات، درويش.. أيها الطاعن في الحضور، أنظر كيف تتكاسل الفصول في غيابك.. هذا الصيف المحمّل بشهوات لا تنطفئ… المصفّر بنداءات لا تتوقف، المسافر إليك صوب مدن بعيدة وباردة، مدن صارت كأنها قدرك.. يا لخبث المنافي حين تكون شريكةً في الألم، يا لتعاستها وهي تحتضنُ الوجع، ولا تقوى على فعل شي تجاهه. لأجلك، صرنا نلوم الأماكنَ على قسوتها! على مكرها الذي يزحف مثل التجاعيد على قسمات الوجوه.

درويش استطاعَ إنطاق الشعر وتمويجه، وبناء عالم يخيل لكل واحد منا أنه صنعه لأجله، كان رقيقاً وعميقاً في كل ما قال.. إلا قصيدةً واحدة قال فيها: “يُحبُّونَني مَيِّتاً لِيَقُولُوا: لَقَدْ كَان مِنَّا، وَكَانَ لَنَا”. درويش أحبوك حيّاً ويحبونك ميتاً، فالقصيدة وإن كان بها ميل للغياب، لا تفتر وإن ترجلَّ فارسها.

درويش أيها الشاعرُ الأنيق في كلماته، الموسيقيُ في وزن الحروف ورسمه.. الشعرُ عندنا متعة، لكنه عندك وعيٌ يتشكل على مهل، إنطاقٌ ماكر للنص والحرف، وصفعٌ لذيذ بغرض الاستفاقة، لذا نم مطمئناً، فلن تنشف ريشةٌ لك غطستها يوماً في حبر قلوبنا.

درويش، بعد مشوار تقاسمت فيه معنا زرقةَ المسافات وبهجتها، كان لابد لحصان الشعر إن يخبَّ وحيداً، وللحمام أن يبدأ رفرفةَ الرحيل.

يطير الحمام أخيراً.. حاملاً في ساقه قصاصات شعر لم يتسن لها أن تكتمل، باحثاً هو الآخر عن ربيع ظل يفتش عنه في بلاد بعيدة.

للموت دوماً ذاتُ الرهبة والقدسية، لكنه أحياناً يجافي العتمةَ ليلبس إكليلاً من النور، فأيُ خاتمة نبيلة وأسطورية لرجل قال ذات يوم “إن ثَلاَثِينَ بحراً تَصُبُّ بِقَلْبِي”. هذه البحور التي تحتفظ بدمع مالح، لم تقو على منحك رحيلك المشتهى.. وقفت شاهدةً تندبُ كلَ الأشياء، وتبكي عطشها الآتي للشعر.

درويش… أليست مفارقةً مؤلمة، أن يموتَ بعملية قلب مفتوح، صاحبُ القلب المفتوح على الحياة!!

* ألقيت في أمسية اتحاد كتاب وأدباء الإمارات بأبوظبي بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل محمود درويش.
** كاتب ورائي أردني مقيم في أبوظبي.

———————
الإسم : زياد أحمد محافظة

البريد الالكتروني : ziadmahafza@gmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى