دماء غزة.. اشراقة تكشف الفارق الجذري بين الوطن والدولة

#دماء_غزة.. اشراقة تكشف الفارق الجذري بين الوطن والدولة

كتبت #عالية_الشوبكي – 

أبحثُ عن وحدة قياس حقيقية ودقيقة لقياس الدّم قادرة على استيعاب مؤشرات الدّم في غزة حين يرتفع مؤشر الدّم على النحو الذي وصله بعد أكثر من مائة يوم- حتى هذه اللحظة- فأول القراءات تشير إلى أن المتتالية هندسية حدّها الأول هو السابع من أكتوبر وحدّها الأخير- وهو قريب جدا- هو تحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر.

أبحث عن وحدة قياس دقيقة تقيس تراكم التجارب كمّا ونوعا في غزة منذ ما قبل هندسة يحيى عياش وأنفاق الشبح محمد الضيف وصولا إلى زمنهما وزمن صناعة عسكرية أذهلت العالم بساطتها وقدرتها وتأثيرها والتفوق التكنولوجي للقائمين عليها وأغلبهم من مواليد ستينيات القرن الماضي قبل أوبعد هزيمة حزيران 1967 بقليل.

مقالات ذات صلة

لا بدّ من وحدة قياس للدّم يرتفع مؤشرها حيث ارتفع في غزة حدّ أن يوصي الرفيقُ رفيقَه : إن “سقطتُّ قربك فالتقطني / واضرب عدوكَ بي” فتسقط أعذار الباحث عن “تسوية” تحقن الدّم بين القاتل المجرم والقتيل الشهيد… ويسقط معها من يسوّق لمثل تلك التسويات.

لا بدّ من وحدة قياس قادرة على استشعار أحوال الدّم وتحولاته؛ فالدّم في اللون حُمرةٌ تعلو الوجه خجلا أو غضبا، والدّم في الحركة يسيل، ويتجلط، ويجف، ويتسمم، وينظف خلاياه، ويجددها، والدّم يحيي، فيوهب، ويبذل، والدّم في الاشتباك يسفك، ويُهدر، والدّم في الشراكة يختلط ويمتزج، والدّم في المجاز خفيف، وثقيل، وبارد، وحامٍ، وبعضهم “عنده دم” وآخرين” ما عندهم دم”!

لأن الدّم كل ذلك وأكثر فإن وحدة قياس الدّم في غزة، فقط في غزة، هي “الإشراقة”.

دماء غزة هي إشراقات غزة، بها تتم المعرفة، ويكون التغيير والتحول لكنها تظل توجع مهما تكررت فهي تفاجئ مرات ومرات في اليوم الواحد ولا تُعتاد أبدا، ولا تُقبل ولا تُغفر.

من رأى في السبعين عاما الأخيرة دما عربيا على أرض عربية أوضح من الدّم الغزّي على أرض غزة، فليصحح، فإن لم يفعل فهو في حضرة إشراقة الوضوح، وضوح الدّم.

وضوح دماء غزة “إشراقة” يزلزل في زمن يلقي فيه الغموض إلى الفوضى، ومنها إلى خلط في المفاهيم والأفكار، واختلاط في المواقف، وأخطر من كل ذلك أن اختلطت على المرء ذاته؛ فهذا الواحد الذي يحمل ضده تزلزل، نعم، هو وضوح يزلزل؛ لأنه لا يحتاج إلى إعمال الفكر لفهمه. مواجهة هذا الوضوح هي سبب الزلزلة التي أصابت الناس ففاضت بهم المدن ولحقت بهم المؤسسات والمنظمات والأحزاب التي قادوها ولم تقدهم، فأمام وضوح الدّم في غزة لا بدّ لك من موقف واحد مع هذا الدّم أو ضده، ولا مجال لمنزلة بين المنزلتين، وكل ما سبق وتعلمناه من مهارات المراوغة، واللعب على الكلام، والقفز على الحبال، لم يعد يجدي نفعا.

وضوح الدم في غزّة أفقد الأعداء- روما وغير روم- الاتجاه، ارتطمت منظوماتهم الفكرية التي تحكم وجودهم بما لا يستطيعون فهمه؛ كيف يفهم هؤلاء ظاهرة الفتى الذي أشهر سبابته مؤكدا لمراسل قناة تلفزيونية، تعليقا على استشهاد أمه وأفراد أسرته :” إنت نفسك رح ييجي يوم تصورني وأنا دايس على رقابهم”، هذا وضوح مربك، وأولئك السفاحون يستعصي عليهم فهم ما وراء لغة جسد طفل وضع يده على خاصرته يتأمل الدمار حوله بعيني مصمم على الصمود، منتصرا أو شهيدا.

دم بهذا الوضوح يجبر الأعداء على إعادة التفكير بالفارق الجذري بين مفهوم الوطن ومفهوم الدولة؛ الوطن وجود مكتمل بشرا وحجرا وشجرا وترابا وماء وتاريخا ممتدا في الزمان، أما الدولة فاتفاق لتنظيم هذا الوجود، وحين تكون دولتك على أرض وطنك فأنت تذهب للحرب في سبيل وجودك ماضيا وحاضرا ومستقبلا، تذهب شهيدا أو منتصرا، أما من تصطنع له الأموال وأربابها دولة، على أرض ليست له فهو يذهب إلى الحرب مرتزقا مدفوعا براتبه وبضمانات كافية أنه لن يؤسر ولن يقتل، وعلى أراضينا مر كثير من الغزاة في كل العصور، واصطنعوا دولهم بيننا في أوطاننا ثم ذهبوا مندحرين وبقينا. وهذه غزّة الفريدة في استنزاف المتغطرسين قطرة قطرة، وسكب أوهامهم على أناهم المتورّم، وذواتهم المظلمة.

هو وضوح الدّم، ذلك الذي يضغط الزمن فينتقل الطفل إلى الشباب ويحمل سلاحه بين دمين كأنهما ومضتان. والزمن ما بين (عربي) في “أنت منذ اليوم” وبين الفتى الذي سيدوس رقابهم ومضتان. يقول (عربي): “في العاشر من حزيران، هبطت إلى نهر الأردن لأرى ما الذي حدث لبلادي.. كان الجسر محطما بشكل فظيع… وقفت على آخر نقطة صالحة للوقوف في الجسر، الآن أعرف أنني كنت أبحث عن آخر شبر مما تبقى وطنا لي… كثيرا ما عبرت هذا الجسر إلى الضفة الأخرى هناك” ، كان (عربي) يحدث نفسه منتحبا وقد رأى أن ” الشعب قد استحال كائنا واحدا ضخما ومجروحا يترنح ببطء، ولم يكن قط ذهول أبعد من هذا” بينما الجنرال، (موشيه دايان) يتربع داخل جمجمته وهوينتحب.

ما بين (عربي) وبين الفتى الذي سيدوس رقابهم، يدورالتاريخ دورته ويعود إلى ” إننا أمةٌ لوجهنم صُبّت على رأسها، واقفة..” فأبحث عن لغة تحمل هذا الدّم الواضح ليكون تاريخ ملحمة يشتد الصراع فيها بين مشروع تحرر ومشروع هيمنة ويمتد من غزة إلى كل بقعة على الأرض ضاقت بالهيمنة على مصائر أهلها وثرواتها.

أبحث عن لغة تكتب ملحمة غزّة بشروط الحاضر لتُقرأ بوعي يستكشف معالم طريق المستقبل، لغة تؤرخ واقعية هذا الدّم وتحميه من مَظْلَمة “الأسطرة” التي تسلب الغزّي حقه فتنفي- دون قصد ودون انتباه- نضاله وتراكمات تجاربه منذ ما قبل الاحتلال 1967 وحتى اللحظة دما ونارا ودمارا وشبابا يرون الضعف سُبّةً، فيحدقون في الموت عينا بعين فيكفهر وجهه وتبسم قسماتهم شهداء ومنتصرين.

أبحث عن لغة لها كبرياء الغزيين تنتفض ثائرة على الوَلَه العربي بصياغة المراثي والبكائيات لأحزان يراها العنفوان الغزّي على عِظَم وجعها عادية ويومية، لغة لها عنفوان عمرو بن كلثوم وابن ليلى بنت المهلهل، وخليط جينات الكرامة في دمه، لكنها لا تغفل عن احتضان أحزان قلب طبيب غزّي بتر ساق ابنته دون تخدير.

أبحث عن لغة تُنطِقُ الدمار في غزة كلما رأت هوله بعد كل هجوم رأت بعين العقل وعين القلب معا أي وجع أوجعتهم صفعاتها المتتالية لصلفهم، ولا تحتاج غزة إلى أي (بيكاسو) فالكاميرات تكفلت بالمهمة صورا وفيديوهات تجاوزت في أدبيات الحروب ألف ألف غيرنكا، لكنها بالتأكيد تحتاج (زوربا) يحسن الرقص حين يوجعه قلبه ويوثق للتاريخ وللأجيال القادمة أننا حين يداهم رباطةَ جأشنا البكاءُ ننظر في عين الجرح النازف ونغني انتصاراتنا لننهض من جديد.

أبحث عن لغة يجدد أهلها تواصلهم معها، ومع التاريخ والجغرافيا السياسية وعلم الاجتماع ليؤرخوا بلغة حيوية متجددة لجيل قادم شارحين ومفسرين كيف ولماذا استطاعت صواريخ اليمن أن تطوي المسافات وتلغي أكذوبة أن الفلسطيني وحده وتوقف الطغيان على عصبه المهترئ.

يتبع..

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى