
د. #هاشم_غرايبه
قد يعتقد كثيرون أن إسباغ الله لنعمه الكثيرة على البشر بلا تمييز بين الطائع والعاصي، تعني أنه يعاملهم على السواء، لكن لو تأملنا في أوجه إكرام الله لعباده المؤمنين قصرا من دون الكافرين، لوجدنا الكثير من المكافآت والأعطيات والتي لا يمكن معرفتها إلا لمن هداه الله الى اتباع منهجه، أما من خالفه واتبع غيره فقد عاقبه الله بعقوبة قاسية يستحقها، وهو أن أمره قد صار فرطا، ففقد المرجعية الحقة، فلا يعرف التدبر ولا يحسن التدبير: “وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا”.
من هذه الأعطيات الكثيرة، هو شهر رمضان، فهو موسم الإستثمار المربح بالكلفة القليلة.
فالحسنة بعشرة أمثالها الى سبعماية ضعف، لكنها في رمضان ضعف ما يناله في الأيام الأخرى.
هذا العائد الضخم قد لا يكون كافيا لزحزحة المرء عن النار ودخول الجنة في حالات أناس كثيرين، بسبب كثرة معاصيهم، منها ما يعلموه ومنها الخافية عليهم.
وقد لا تكون بعض من عباداتهم مقبولة عند الله بسبب الغفلة والسهو، كانشغال الذهن خلال الصلاة أو نقص في بعض الأركان أو الطهارة، أو فساد في الصدقات إن شابها المنُّ أو المراءاة، أو لكون المال مخلوطا بكسب فيه حرام أو نوال بغير حق.
لكل ذلك وغيره من الظروف المحبطة للأعمال الصالحة، فقد منح الله المؤمن الطائع حصرا مجموعة من العلاوات والزيادات تعوض ما قد يكون فقده من الرصيد اللازم لدخول الجنة، فجعل أجر قيام الليل في رمضان مجزيا، وللدعاء والإستغفار مردودا عاليا، وخاصة في دعاء ما قبل الإفطار، فهو من التي إن قيلت عن احتساب فهي تصل الى الله تعالى.
لكن أعظم المنح عل الإطلاق والتي منحها الله لأمته المؤمنة هي ليلة القدر، ولعظم قدرها فقد وصفها الله أنها خير من ألف شهر عبادة خالصة.
ولما كان موقعها في الليالي العشرة الأخيرة، بحسب ما أخبرنا نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، فالعاقل من اغتنم هذه الفرصة الثمينة والتمس عطاءها.
هناك مفاهيم تراثية ليس لها غطاء شرعي، مثل الإعتقاد أنها تفتح على شخص واحد، ويستجاب دعاؤه مهما طلب.
من سورة القدر نفهم أن عظم شأنها متأت من أمرين، الأول أنه في تلك الليلة نزل القرآن من اللوح المحفوظ كاملا، وأول ما نزل منه كان في تلك الليلة، الآيات الخمس الأول من سورة العلق، من ثم بدأ يتنزل مفرقا لمدة ثلاثة وعشرين عاما على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الحدث الأهم في تاريخ البشرية.
والأمر الثاني: أنه في تلك الليلة تعيّن مقدرات الناس لسنة كاملة من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء وما الى ذلك “فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ” [الدخان:4]”، ففي هذه الليلة تقدر كل الامور والمسائل المصيرية المرتبطة بالانسان والحياة والكون، وجاء الوصف القرآني بالحكيم لبيان استحكام هذا التقدير وعدم تغيره، وكونه حكيماً لبيان أنه الأمثل تدبيرا، والأفضل تعيينا زمانا ومكانا.
ولأجل تدبير كل امر من الامور المتعلقة بالحياة والكون “تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ” [القدر:4]، فالهدف من نزول الملائكة والروح في هذه الليلة هو لتقدير وتعيين هذه الامور والحوادث الكونية التي ستقع في السنة القادمة.
قد يبرز هنا سؤال: ما نفع الدعاء إذاً، اذا كان كل ما سيجري السنة القادمة قد رتب مسبقا بقدر محكم وحسبما قضى به الله منذ الأزل!؟.
يقول الفقهاء إن القضاء هو ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، ويشتمل على البنود الرئيسة، والقدر هو ما في صحف الملائكة المكلفين بإنفاذه ذلك العام، وفيه التفصيلات الدقيقة للأحداث.
الدعاء هو التدخل الوحيد لقوله تعالى ” قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ” [الفرقان:77]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا يرد القضاء إلا الدعاء”.
لذلك يمكن أن يستجيب الله فيغير في بعض ما كلف الملائكة به، وهو وحده يملك ذلك: “يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ” [الرعد:39].
هكذا فالدعاء هو أعظم سلاح للمؤمن، وهبه الله إياه ليلجأ إليه عندما تنسد أمامه كل السبل.