خواطر رمضانية

#خواطر_رمضانية

د. #هاشم_غرايبه

يقال لمن يُؤمن بطشه ولا يُخشى من غضبه (حيطه واطي)، لذا فهي أقسى هجاء يناله شخص أو قوم أو بلد، وفي سبيل تجنب هذه الحالة قامت حروب ونشبت نزاعات، ولا زلنا نتغنى بمعركة ذي قار، التي نشبت عندما انتصر العرب أخيرا لكرامتهم التي استباحها العجم طويلا، وعندما هبوا دفاعا عنها سجلوا أول انتصار على قوة لم يكن لهم قِبَلٌ بها قبلاً.
وقعت معركة مؤتة، في بدايات الدولة الاسلامية الناشئة، عندما قتل والي الروم على البلقاء “شرحبيل الغساني” رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم الى ملك بصرى “الحارث بن عمير الأزدي”، خلافا لما جرت عليه العادة من عدم التعرض للرسل، وذلك لأن الغساسنة كانوا يستقوون بأسيادهم الرومان ويعتبرون العرب المسلمين “حيطا واطيا”، ثأر المسلمون لكرامتهم وارسلوا جيشا الى مؤتة في جنوب الأردن، ليخوض معركة كانت تعتبر انتحارية بمقاييس الحسابات العسكرية، لكن درء صفة الحيط الواطي كانت أهم من كل الحسابات، وثبت فيما بعد أن هذه الموقعة أسست لمعركة اليرموك الفاصلة.
هنالك إهمال مقصود في مناهجنا التعليمية لمعركة مؤته، لأنها تكشف عيوب القيادات الحاكمة المتخاذلة، وتشير إلى مسؤوليتها عما آل اليه حال الأمة الراهن، ومن خلال الدروس المستفادة من تلك المعركة المجيدة، ومنها:
1 – تفرض الدولة هيبتها وتثبت وجودها بمدى انتصارها لمبادئها والتزامها بالدفاع عن مواطنيها، بغض النظر عن تفوق المعتدي الساحق، فقتل مواطن يحمل رسالة بلده استوجب غضبة الدولة، فتم تجهيز ثلاثة آلاف مقاتل لتأديب المتعدي، كان لهذا القرار أثره في نفوس المؤمنين إذ عرفوا أن كل فرد له قيمته، وأن قيادتهم لا تفرط في مواطنيها، ولا تسكت على ضيم نالهم.
2 – كانت الغزوة بالمقاييس المادية والواقعية ميؤوس من نجاحها، فهل كان ذلك غائبا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، إذ كان جيش المسلمين ثلاثة آلاف، يقابلهم من الروم مائة ألف ومن عملائهم عرب الغساسنة مائة ألف أخرى، أي ما نسبة 1:70، زيادة على أن المسلمين منقطعون عن أرضهم ومددهم، رغم ذلك لم يتراجعوا عن قرارهم، فناجزوا العدو بكل بسالة، ثم عادوا سالمين لم يفقدوا سوى اثني عشر شهيداً، لأن الهدف لم يكن دحر الروم وأذنابهم العرب، بل كان رسالة الى كل معادي الدين بأن الدولة الإسلامية تحقق العزة والكرامة، وحيطها ليس واطياً، فها هي تهاجم أعداءها في عقر دارهم، ولا تقعد بانتظار فعلهم ليرد عليه.
وكان لذلك أثر بالغ، فقد أوقع الله في قلوب الأعداء الوهن، فلم يتعرضوا للمسلمين بعدها، حتى جاءوهم فاتحين، وانتصروا في معركة اليرموك، فطردوا الروم وحرروا العرب.
3 – ما أشبه الليلة بالبارحة، فقد ظل ملوك عرب الشام والعراق قرونا مستعبدين للفرس تارة، وللروم تارة أخرى، ظلوا يُسخّرونهم لنحت الصخور بيوتا ومسارح لهم، ويبنون لهم القلاع والحصون، لم يغضبوا لكرامتهم فيثوروا عليهم، وعندما رأوا بني جلدتهم قد انبثق عندهم نور واعد، وبدلا من أن يفرحهم ذلك غدروا برسولهم تقربا من سادتهم الرومان، وعمالة لمستعبديهم، ثم ناصروهم بمثل عدد جندهم ضد إخوانهم العرب المسلمين في مؤتة.
بعد سبع سنين جاءوهم في هذه المرة فاتحين، وبدل أن ينتهز هؤلاء الحكام الفرصة للتخلص من حكم الرومان، ناصروهم مرة أخرى على من جاءوا لتحريرهم، لكن الله هزمهم، وعندما التحقوا بسيدهم هرقل المهزوم، وتركوا أهل البلاد وشأنهم، اهتدوا ودخلوا الإسلام، فعرفوا عندها معنى العزة، بل أصبحت دمشق عاصمة للدولة الإسلامية العظمى، سيدة للعجم والروم.
خلال القرن المنصرم، وبعد أن استعاد احفاد الرومان زمام المبادرة، ونجحوا بالقضاء على الدولة الإسلامية، أعادوا من خلال منظومة أنظمة (سايكس – بيكو) إرث الغساسنة والمناذرة القميء بالعبودية والعمالة للأجنبي، فعادت معيشة الذل والمهانة.
4 – لقد نصر الله المسلمين في مؤتة لأنهم جاءوا لرفع راية الله، رغم استحالة نصرهم واقعيا، فأدوا الهدف من تلك الغارة، ليبين لنا أن العرب عندما يكونوا مسلمين، ولو كانوا ثلاثة آلاف، ينتصروا على مائة ألف من العرب العملاء، ولو كان معهم مائة ألف أخرون من أعداء الدين يحالفونهم.
من يختار أن يكون حيطه واطيا لا ينتصر، النصر ليس بالعدد والعدة، بل بالإيمان الذي يصنع الإرادة والعزيمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى