خلف الحدث
د. هاشم غرايبه
حادثة جنوح السفينة التجارية وإغلاقها لقناة السويس، كانت حدثا هاما، نال اهتماما عالميا كون هذه القناة أهم ممر ملاحي في العالم يربط الغرب بالشرق، وتعبره خمسون سفينة يوميا.
لذلك كان من الطبيعي أن ينال الاهتمام، ويبحث فيه الخبراء والمحللون، الذين كان هنالك شبه إجماع بينهم على أن الحادث مريب، ورفضوا تبريرات الساسة لها بأنه حادث عرضي.
بداية فالتبرير الأولي الذي قدمته الحكومة المصرية كان هزيلا، وهو أن رياحا عاتية هبت فجأة ودفعت السفينة، لم تقنع هذه الرواية أحدا، كون هذه السفينة عملاقة تزن حوالي ربع مليون طن، فلا تؤثر فيها رياح أثبتت نشرات الأحوال الجوية أنها لم تزد سرعتها عن 40 كم/ساعة، خاصة وأنه كانت هنالك عدة سفن في المنطقة ولم تتأثر بتلك الرياح.
لذلك قدمت السلطات رواية أخرى وهي أن خللا كهربائيا حدث في السفينة، لكن ينقضه أنه لم يسجل أي نداء استغاثة، كما هو معتاد في مثل هذه الأحوال، أو اتصال من السفينة بطواقم الإرشاد التي تواكب السفينة عادة طوال عبورها القناة، أمامها وخلفها.
بناء على ذلك فقد ذهب المحللون مذاهب شتى، وحاول بعض طبّالي النظام استغلال الحادث بتوجيه أصابع الاتهام الى الإخوان المسلمين كالعادة، لكن لم تلق فكرتهم قبولا لسخافتها، لذا فتوجهت الأنظار الى محراك الشر الأساس في المنطقة “الكيان اللقيط”، وبحثوا عن مصلحته في الأمر.
أهم ما دفعهم الى تلك الفكرة أنه ثبت في كل أعمال الاغتيال أو التخريب السابقة التي حدثت في المنطقة، وبلا استثناء، أنه عندما يبقى الحادث غامضا وتجري لفلفته بسرعة ولا يتم التحقيق فيه أو تسند التهمة الى مجهول…يكون “الموساد” وراءه.
لذلك نقّب المحللون في الأمر مليا، وخرجوا بقناعة أنه في ظل تقدم وسائل الملاحة البحرية فإن حدوث أخطاء بشرية مستبعد، وخاصة إن كان في منطقة حيوية كقناة السويس، لذا تصبح فكرة أنه أمر مدبر أعلى بكثير، فمن هو المستفيد من وراء ذلك العمل ان كان مدبرا حقيقة؟.
نجد الجواب إن عرفنا المنافس الذي تتحسن كثيرا فرصه بحدوث قلق عالمي من سلامة النقل في هذا الممر الحيوي، وينعكس ذلك برفع قيم التأمين وأجور النقل، مما يدفع للبحث عن طريق بديل.
هنالك عدد من الطرق البديلة أوردها فيما يلي مرتبة بحسب فرص تقبلها:
البديل الأول هو الطريق البري من ميناء حيفا الى ميناء جبل علي في الإمارات براً، من خلال خط سكة الحديد المارة عبر الأردن، فعليا تم إنجاز المقطع المار في فلسطين المحتلة من حيفا حتى نهر الأردن، ومن الحدود الأردنية حتى الإمارات، وبقي المقطع الأردني والذي أنجز منه شراء الأراضي التي يمر فيها الخط، لكن غير معلوم سبب عدم التنفيذ.
أو سكة الحديد المارة من ميناء أسدود الى إيلات ثم بحريا بالمرور عبر خليج العقبة.
يلي ذلك طريق الحرير الصيني الجديد (سكة الحديد) عبر اذربيجان وتركيا الى أوروبا، ثم طريق الرجاء الصالح الطويل، وأخيرا الطريق البحري الشمالي المحاذي لروسيا بعد أن زال الجليد عن معظمه.
لكن كل ذلك يمكن الاستغناء عنه إن أعيدت الحياة لفكرة قناة بديلة لقناة السويس، تربط بين عسقلان وخليج العقبة (إيلات)، والتي أطلق عليها مسمى قناة بن غوريون، هذه الفكرة قديمة وكانت غير عملية لسببين: الأول وعورة المنطقة مما يجعل الكلفة باهظة، والثاني أن مدخل الخليج يقع بكامله تحت السيادة المصرية.
العقبة المالية يمكن تذليلها حاليا بعد أن مهد التطبيع الطريق أمام تحميلها للإمارات بذريعة الشراكة الاستثمارية، أما العقبة الثانية فقد تم إزالتها من خلال مشروع “نيوم” الاختراقي، ومن خلال شراء السعودية لجزيرتي صنافر وتيران المصريتين، فأصبح مضيق تيران دوليا كونه يقع بين دولتين وليس ممرا مصريا خالصا كما كان عندما كان مملوكا لمصر فقط.
هنا نفهم الإسراع الى التطبيع بين الكيان اللقيط والإمارات وحرق المراحل، ومجازفة “السيسي” بخرق الدستور الذي يحظر التنازل عن أرض مصرية مهما كانت الذريعة.
جشع الرأسمالية لا يتوقف عند حد، الأقوياء يتشاركون المغانم، لكن الضعفاء دائما هم الضحية.
ذلك مبدأ النظام العالمي الجديد، ولا شك أن أنجح استثمار للغرب كان في الأنظمة العربية، فهي التي حافظت لهم على إبقاء الأمة دائما ضحية الأطماع.