خلافات “جهادية” مزمنة في سورية
دخلت سورية آفاق الحراكات الاحتجاجية في سياق دومينو “الربيع العربي” الذي اجتاح المنطقة للاحتجاج على ما آلت إليه أوضاع الدولة الوطنية ما بعد الكولينيالية من فشل ذريع في تحقيق الاستقلال والحرية والعدالة والديمقراطية في ظل أنظمة قمعية دكتاتورية فاسدة، وسرعان ما تحولت الانتفاضة السلمية في سورية إلى مواجهة مسلحة ثم باتت أكبر ساحة لاستقطاب الجهاديين في التاريخ المعاصر، ولم تكن ديناميكية التحول في طبائع الصراع طبيعية عفوية، بل عكست رغبة دولية وإقليمية ومحلية بحرف ميكانزمات النزاع وموضعته في سياقات حرب “الإرهاب” من خلال ردكلة القوى والحركات والاتجاهات في سبيل تحقيق مصالح استراتيجية جيوسياسية، وبهذا تموضعت “الجهادية” في ثنايا الصراع الإقليمي والدولي، وأصبحت لاعبا ولعبة في ذات الوقت.
على مدى سنوات شهدت الحالة الجهادية في سورية عمليات فرز واستقطاب حادة أفضت إلى ولادة حركات كبرى ووسطى وصغرى اختلفت على تمثيل الإسلام وتأويله، وقد تمكن التأويل السلفي الجهادي من الاستحواذ على النصيب الأوفر نظرا لخبراته التاريخية في ساحات عديدة، تلك الخبرة التي تجلب معها خلافاتها وانقساماتها المزمنة حول الأولويات والاستراتيجيات والتكتيكات، ويمثل تنظيم القاعدة القوة الجهادية الكبرى تدور في فلكها خلافات الجهاديين، ومع انحسار رقعة الساحة الجهادية السورية في حدود محافظة إدلب تشتد الخلافات وتحتدم النزاعات.
شهدت الساحة السورية خلافات وصدامات دائمة بين الجهاديين، ولم تنقطع المبادرات للصلح بين أخوة الجهاد، وقد انتهت معظمها إلى الفشل الذريع، وذلك بسبب الطبيعة المزدوجة للحركات الجهادية السلفية التي تقوم على المراوحة بين الإيديولوجية المتصلبة والبراغماتية الفجة، والتي تدفعها دوما إلى البحث عن تحالفات محلية وإقليمية ودولية هشة للحصول على الشرعية والتمويل، فالخلافات وديناميات الانقسام هي الأصل في الحركات الإيديولوجية السلفية المتصلبة لأسباب دينية تتعلق بسياسات الحق والحقيقة ومفاهيم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، من جهة ومواضعات المصلحة المرسلة واستراتيجيات السيطرة والنفوذ من جهة أخرى، فالقتال بين الفصائل الجهادية سمة بارزة، وأكثر القتلى يسقطون في معارك جهادية بينية.
خلاف الجهادية الأبرز في سورية ظهر داخل تنظيم القاعدة وأسفر بداية عن ولادة تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة ــ القاعدة في بلاد الشام منذ منتصف 2013، والذي قاد إلى حروب ومعارك جهادية بين الفصائل لا تنتهي، وإذا كانت الخلافات الإيديولوجية والاستراتيجية بين أبرز ممثلي الجهادية العالمية التي جمعتهم القاعدة أدت إلى المفارقة والإلغاء والحرب، فإن الحرب في صفوف قاعدة الشام توشك على الانفجار في ساحة إدلب عقب اتهام النصرة بخيانة القاعدة، الأمر الذي أدى إلى طرح مبادرة للصلح من قبل عدد من منظري ومشايخ السلفية الجهادية العالمية وفي مقدمتهم أبو قتادة الفلسطيني أبو محمد المقدسي، والتي أعلن عنها الأربعاء الماضي 25 تشرين أول/ أكتوبر 2017، تحدثت عن حلّ شامل للمشاكل بين مختلف الفصائل “التي تسعى لتطبيق الشريعة في بلاد الشام”، بحسب ما جاء في بيان الإعلان عنها، وعلى الرغم من الحديث عن صلح بين الفصائل إلا أن القضية المركزية للمبادرة، هي الخلاف الحاصل بين “هيئة تحرير الشام” و”القاعدة”.
تأتي مبادرة الصلح بعد أن تطور الخلافات بين النصرة والقاعدة وعزم تنظيم القاعدة على تأسيس فرع له في سورية بالاعتماد على الجناح المعولم الذي رفض فك ارتباط جبهة النصرة بتنظيم القاعدة، وفي مقدمة الرافضين سيف العدل إضافة إلى مقاتلي النصرة ممن رفض مسألة القتال القطري وتكيفات النصرة وعلاقاتها الإقليمية من الذين تمسكوا بالنهج العالمي للقتال أمثال أبو خديحة بلال خريسات، وأبو جلبيب إياد الطوباسي وأبو محمود الشامي سامي العريدي، وأبو القسام خالد العاروري وغيرهم، والمقاتلين المهاجرين الأجانب في حركة “أنصار الدين”.
على الرغم من حصول مبادرة الصلح على تأييد واسع في صفوف مشايخ السلفية الجهادية إلا أن الأطراف الأساسية لم تظهر أي استجابة تذكر، وذلك بسبب القراءة المختلفة للأوضاع والوقائع في سورية عموما وفي إدلب خصوصا، فالجولاني وأنصاره في هيئة تحرير الشام يعتقدون أن إدلب خارج إطار المعارك وفق التطمينات التركية، بينما يصر الظواهري وأتباعه على أن معركة إدلب وشيكة.
لا جدال أن المعركة في محافظة إدلب مؤجلة لكنها ستقع، وقد تعطلت بسبب تعقيدات بين تركيا وروسيا حول مسار أستانة، ففي الوقت الراهن تتمثل أولوية تركيا بمنع قيام كيان كردي بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، وهو فرع من حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا، فبحسب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تتمثل أولوبة تركيا بمنع تدشين “الممر الإرهابي الذي يبدأ في عفرين ويمتد إلى البحر المتوسط”، حيث تعمل تركيا على تحقيق طموحها بأقل التكاليف الممكنة من خلال خلق تهدئة مؤقتة في إدلب التي تسيطر على معظمها “هيئة تحرير الشام” كي تتفرغ مع الفصائل الموالية لها في “درع الفرات” للأكراد.
تشير تصريحات أردوغان المتضاربة حول عملية عسكرية واسعة تستهدف إدلب وعفرين إلى خلافات مع روسيا لم تذلل بعد، ذلك أن عملية كبيرة ضد قوات محصنة دون دعم جوي سوف تتسبب بخسارة فادحة للقوات التركية وحلفائها من فصائل “درع الفرات” كما حدث عندما واجهت تنظيم الدولة في بلدة الباب شمال حلب، فلا تزال روسيا تعارض اشتراك سلاح الجو التركي لالقيام بمهمات قتالية في المجال الجوي السوري، الأمر الذي يحد من إمكانية تدخل تركي دون تفاهم مع روسيا، وهو أمر ينتظر جولات أخرى في أستانة.
خلاصة القول أن المبادرة الحالية للصلح بين الجهاديين لن تفضي إلى شيء جديد على المدى القريب سوى زيادة حالة الانقسام وعمليات الفرز والاستقطاب، وهي في نهاية المطاف تنتصر للقاعدة على حساب النصرة التي ستدخل في مسار جديد من التفكك مع بدء معركة إدلب، حيث ستستخدم المبادرة للبرهنة على خطأ خيارات النصرة وسوء تقديرها للوضع وتؤكد على صلابة رؤية القاعدة التي ستكون شاهدة على نهاية فصول الثورة السورية وفناء الفصائل.