خرائط جدارية بوجهين

خرائط جدارية بوجهين
الدكتور: رشيد عبّاس

ولذا, فقد كانت خرائط جدارية تجمع أعلامنا.., وكانت خرائط جدارية تجمع الواننا.., وكانت خرائط جدارية تجمع عواصمنا.., وكانت خرائط جدارية تجمع مُدننا.., وكانت خرائط جدارية تجمع نشيدنا الوطني.., وكانت خرائط جدارية تجمع راياتنا.., وكانت خرائط جدارية تجمع شعاراتنا.., وكانت خرائط جدارية تجمع كل شيء وادمنت ذهاب ومجيء انهارنا, تلك الانهار التي سقت اجسادنا وارواحنا بماء الصدق والايمان, وقد فاتني هنا ان اقول انها كانت خرائط جدارية تجمع بحذر بالغ بين الدين والدنيا, وبين السماء والارض, وتراكمت السنين حتى هبّت نسائم الشحناء والبغضاء على امتداد تلك الخرائط فصارت الفتن تشتعل شيئا فشيئا فينا حتى وصلت حد القطيعة, وباتت قصيدة (بلادُ العُربِ أوطاني) تُقرأ على اسطح هذه الخرائط (بلادُ الغُربِ أوطاني).
حين كان يرسم اساتذة الجغرافيا في عالمنا العربي مع الطلبة خرائط جدارية للوطن العربي كان يرفض هؤلاء الطلبة وبالإجماع ان يكون بين تلك الدول اية حدود, وكان يقوم هؤلاء الطلبة في كل مدرسة وقتها دون استئذان من احد, كانوا يقوموا بمسح الحدود بين الدول العربية وكان الطلبة يحرسوا تلك الخرائط الجدارية طيلة مدة الطابور الصباحي, وكان يطلب من الطلبة التدرب على رسم خارطة الوطن العربي بدقة عالية دون وضع اية حدود, ودون وضع اية عواصم, ودون وضع اية مراسم ..كان الطلبة في عالمنا العربي يرسموها صماء غير ناطقة بأية لغة إِلَّا لغة القرآن, وكانوا يمحوّا دون خوف جميع لغات الاستعمار, وجميع لغات الاستثمار, وجميع لغات الاستكبار, وجميع لغات الاستهتار التي كانت تغوص فيها, ومع مرور الزمن بقيت تلك الخرائط, على جدران المدارس من الواجهة الامامية يتيمة, حتى وقتنا الحاضر باتت خرائط جدارية غائبة المعالم, تكسوها خيوط العناكب المغّبرة, ويهب عليها بين الفينة والاخرى رياح التغيير.
كان يقف على تلك الخرائط الجدارية طلبة تحت اسم كشافة الحدود, كان هؤلاء الطلبة يحملوا بأيديهم اعلام الوطن العربي مرفوعة للأعلى, وقبل انتهاء الطابور الصباحي بقليل يعطى أساتذة الجغرافيا في عالمنا العربي امرا موحدا لتلك الكشافة بالانسحاب الكامل من حولها,..وعلى الفور كان ينسحب الكشافة بطريقة التتابع حتى أخر طالب فيهم, تاركين الاعلام في اماكنها, وفي تلك الاثناء كان يسمع هتافات تنطلق من افواه الكشافة المنسحبين من تلك الخرائط قائلين: (فـلا حـدٌّ يباعدُنا), ليختفي ذلك الهتاف مع اختفاء اخر طالب من على تلك الخرائط المرسومة على جدران المدارس,..عزائنا الوحيد اليوم ان تلك الخرائط بقيت صماء تحمل اسرار اللعبة, لعبة (تلبس الطواقي), حيث كانت توضع تلك الطواقي وتخلع على رؤوسنا وأيدينا مكتّفة على المقاعد.
اللّغز الغريب والذي بقي غامضا حتى يومنا هذا ان امتحان الجغرافيا في عالمنا العربي كان موحد ولجميع طلبة الامة العربية حيث كان السؤال الاول في هذا الامتحان ينص عادة على: (سافر بحرا بقارب شراعي صغير من مضيق هرمز الى مضيق جبل طارق مع ذكر جميع الانتصارات التي حققتها تلك الدول التي تمر بها في مجال قنص الارانب البرية)؟..اما السؤال الاخير في ورقة الامتحان وقبل عبارة وفقكم الله كان ينص عادة على: (اقترح حدود جديدة للوحة الجدارية لخارطة الوطن العربي المرسومة على جدار مدرستك في ضوء (البدع) الدينية التي تسلّلت الى عالمنا العربي عبر الخلافة الاموية وعبر الخلافة العثمانية مرورا بالخلافة العباسية)؟
المشكلة الحقيقية يا معشر القوم, ليست في الارانب البرية او (البدع) الدينية مع انها تستحق ان تختفي من خارطة الوطن العربي, انما المشكلة الحقيقية تكمن في اننا كنا وما زلنا نرسم على جدران مدارسنا في العالم العربي خارطة الوطن العربي كخرائط جدارية مكبّرة وملوّنة بقياس (4 × 3) متر, ونؤدي لها في الصباح التحية وسلام التعظيم من الواجهة الامامية, ..في حين اننا نقوم في نفس الوقت بحفر وهدم تلك الخرائط الجدارية للوطن العربي من الواجهة الخلفية.
انها خرائط جدارية رُسمت بوجهين في عالمنا العربي..
وباتت تلك الجدران للأسف الشديد تطل منها رؤوس البنادق السوداء اثناء اقتتال الثقوب..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى