خاطرة
د. هاشم غرايبه
منذ الأزل، و #الإنسان يتساءل ويبحث عن #الحكمة من #الوجود، لكن ذلك ليس سرا مخفيا عن البشر، بل هو جليٌّ لأولي الألباب، وهم من يتأملون ويتفكرون بعقل منفتح ونية صادقة في المعرفة، لكن من أبطأ به عقله عن ذلك، جاء #القرآن_الكريم ليجلي له تلك المعرفة، فبيّن أن الله لم يخلق الإنسان بهذا الكمال والجمال والتميز والسيادة على سائر مخلوقاته في الأرض عبثا، بل لهدف جليل هو معرفة الخالق بصفاته الحسنى، لأجل ذلك أوجد فيه نفحة بسيطة من كل صفة، لكي يفهم معناها، لأنه متى ما عرف ضآلة ما يملكه منها، مقابل المسافة الهائلة التي تفصله عن الكمال المتمثل في الله، سيعبده حتما، وسيتبع صراطه المستقيم، درب الفلاح.
لكن الله لرحمته بالإنسان، ولكرمه تعالى وجزيل عطائه، وعده أنه باجتيازه ذلك الامتحان المعرفي واختياره طوعيا للمسار القويم، فسوف يجزيه نعيما أبديا، فينتقل الى حياة أخرى، بطور جديد ليس فيه ابتلاء ولا اختيار، بل هو إما #نعيم_سرمدي أو #شقاء_دائم، والناس فيهما ليسوا سواء، بل في درجات متباينة، وتحديد هذه الدرجة مرتبط بمدى عمله في الدار الأولى: ” وَلَلْآخِرَةُ َأكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا” [الإسراء:21].
ولأن العدالة الإلهية مطلقة، لا ظلم فيها ولا محاباة، فاستحقاق ذلك النعيم والشقاء ليس قدرا مكتوبا على المرء، بل هو نتاج اختياره الحر، وثمرة مجاهدة النفس لحملها على تحمل مشاق الانضباط بمنهج الله، والصبر على الصعاب التي ينالها المرء من الأشرار والظالمين، لحمله على اتباع ضلالهم وتنكب طريق الهداية.
ولرحمة الله الواسعة، فإن الخالق لم يترك الناس هملا ضائعين، فأوجد لهم ثلاثة أطواق نجاة: مصلحين يدلونهم على صراط الله، وأعطاهم العقل، وأوجد فيهم الفطرة السليمة التي تدلهم على وجود الله.
هي ثلاثة أمور دالّةٌ على طريق الفلاح، لكنه تعالى ولتحقيق العدالة في تكافؤ الفرص، فقد جعل الابتلاء، في ثلاثة موانع تعاكس مفعول العوامل الإيجابية، هي الأنانية التي تولد الأطماع، والشهوات التي تؤدي للشرور، وقرناء السوء المضلين عن الهداية.
هكذا ينشأ الفرد في صراع دائم بين هاتين المجموعتين من المؤثرات.
فالعقل يتصارع مع الشهوة والهوى المؤدية الى الانحراف ففساد المجتمعات.
والفطرة تتنافس مع الأنانية والطمع المؤدي الى الظلم فالنزاعات.
وأفكارالمصلحين تتجادل مع وسوسات قرناء السوء فالضلال فالإنحراف عن الاستقامة والصلاح.
لذلك كان الإمتحان عادلا والفرصة متاحة للجميع على السواء، فما أن تأتي ساعة أن تطوى الصحف وتسلّمَ الإجاباتُ بانتهاء مدة إقامة المرء في هذه الدنيا، حتى يكون كلٌّ قد قدّر لنفسه نتيجته، لكن يوم الحساب هو إعلان النتائج الرسمية.
هذا على المستوى الفردي، لكن المنهج الإلهي يتعامل مع أعمال البشر على مستوى جماعي أيضا، أي يحاسب المجتمعات ككل أيضا في الدنيا قبل الآخرة، فالأصل أن يوزع النعم الأساسية ( الأقوات والأمن )على المجتمعات جميعا قبل أن ينقسموا مهتدين أو ضالين، فالمهتدون يبقيها عليهم ما داموا على هدايتهم: “ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” [الأنفال:53]، ولا يعيد تلك النعم إليهم إلا إن عادوا عن ضلالتهم: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” [الرعد:11].
علاوة على ذلك، فمن إكرام الله للمؤمنين أنه يميزهم عن الكافرين في الدنيا علاوة على مكافأتهم العظمى في الآخرة، فالمجتمعات الضالة يحرمها الله من تلك الإنذارات التنبيهية التي يوقعها بالمهتدين إن انحرفوا ليعيدهم قبل فوات الأوان، لذلك فهو تعالى يمدُّ لهم وينساهم من رحمته كما نسوه وعادوا منهجه: “فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ” [الأنعام:44]، وهكذا ينسيهم تفوقهم ورخاءُهم فرصة المراجعة، جزاء وفاقا لعدم إيمانهم بأنهم تحت مراقبة الله: “وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ” [ابراهيم:42]، ويأتيهم يوم الحساب لينالوا العقاب جزاء وفاقا لظلمهم: “وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ” [فصلت:46].
وبعد …”أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ” [التين:8]!؟؟.