حِراك المعلمين بحاجة لانعطافة تربوية وطنية

حِراك المعلمين بحاجة لانعطافة تربوية وطنية بعمق مشاكل الشعب والوطن.. وشعار “اللهم نفسي” عواقبه وخيمة
فؤاد البطاينة

يبهرنا حراك المعلمين الأردنيين المطلبي بصموده وخروجه عن النسق النقابي المدجن رغم أنهم جيش من الموظفين لدى الدولة، ترتبط مصالحهم وهمومهم مباشرة مع قراراتها من إدارية وفنية ومالية. ولم يكن سهلاً قيام هذا النقابة في دولة غير ديمقراطية كالأردن، وربما كانت حسابات الدولة خاطئة عندما اعتقدت بأنها قادرة على سوسها كغيرها.
فالجزرة لجيش مكلفة والعصا أكبر كلفة. وفي المحصلة أصبح لهذه النقابة الحق القانوني في التظاهر والإضراب للحصول على ما تعتقده حقوقاً لها منتهَكة أو منتقصة، ولها ما يبرر الاستمرار طالما المسألة غير محلوله تفاوضياً بين الطرفين أو بين وجهتي النظر، وكان من المفترض أن تحضر الحكمة كي لا يطول الخلاف ويتعقد ويتحول إلى أزمة تمتد أثارها السلبية وتتوسع على خلفية مطلبية قامت على شيء من المال.

إلا أن سلوك الدولة باتباعها الحل الأمني قد صنع من مطلب هذه الشريحة المتمسكة بمؤسستها النقابية أزمة طافية تبني خيوطاً تُغطي على ما هو أثقل منها. فاتخاذ الحكومات لإجراءات تعسفية ضد المعلمين شمل إغلاق النقابة غير المُجدي وإنهاء وظائف ناشطيها بالجملة وسجنهم وإيذائهم،هو سلوك همجي لا تسلكه دولة معاصرة أو ممأسسة على دستور. ودولة تستخدم البلطجة لتسوية المشاكل الادارية والقانونية والمهنية مع شعبها أو قطاع منه وتعجز عن تسوية تقوم على الحوار والإقناع تحت مظلة القانون واحترام قيم المواطنة وحقوق الإنسان هي بلا شك لا تنم عن مجرد حكم غير رشيد بل تُفصح عن دولة بوليسية فاشلة. ولكن ماذا عن النقابة

حديثي هنا عن حراك نقابة المعلمين وقضيتها هو من حيث المبدأ، ومن واقع تهميشها لطبيعة المهنة ورسالتها التربوية وغياب الرؤية الوطنية. ففي الوقت الذي ترفض فيه النقابة سياسة النظام، فإنها تقلده بل تنافسه في واحدة من أخطر السلوكيات. وهو السلوك المنطوي على تقسيم الشعب وإحلال المصالح الفئوية محل المصلحة العامة وتغييب مشاعر الهم الواحد للشعب وتجزئة تطلعاته ومشاكله على مذبح احتكار المشهد والخزينة والشأن العام ومن يسحج له فهو آمن ومن يبُدي رأياً مخالفاً يَفقد حقوق المواطنة. فمهومنا المُفترض لقطاع المعلمين أنه صاحب المهنة التربوية والأبعد عن المادية، وأنه من يعول عليه في نبذ ومواجهة سياسة الدولة تلك، وترسيخ ثقافة الجسد الواحد للشعب وشمولية النظرة المجتمعية بكل الاستحقاقات تحت يافطة وحدة المصالح والحقوق والعدالة والمصير بعيداً عن محاكاة النظام في نظرته العصبوية وسياسة العصابة والإنعزال عن حقوق الأخرين والشأن العام. فشعار “اللهم نفسي” عواقبه وخيمة على الجميع وفيه تفكيك لمنظومة القيم، ونخر لمطالب الإصلاح والعدالة الإجتماعية، ولمفهوم الدولة وقداسة الوطن.

مقالات ذات صلة

ففي علمنا أن المعلمين يمثلون القطاع الأرقى مُثلاً والمسئول عن الُمدخلات التربوية والقيمية للإنسان وبالتالي المسئول عن بناء الجيل. ومن الخطورة بمكان أن تتجاوز النقابة مستحقات هذه المسئولية. والمعلمون يؤدون وظيفتهم وواجباتهم هذه بالأجر من خزينة الشعب كفرص عمل هي حق لهم بل هم الأولى بالرعاية. ولكنهم عندما ينتفضون لأنفسهم على انتقاص حق مالي لهم فإنما يفعلون ذلك وهم يدركون حكماً بأن معظم قطاعات الدولة الأخرى تعاني الظلم والتضييق أيضاً ولنفس الأسباب، ويعلمون أن هناك بطالة واسعة ومواطنون يبحثون عن أية فرصة عمل يعتاشون منها، ولا يجدوها عند الدولة ولا في القطاع الخاص ولا يمتلكون وسائل الضغط كما يمتلكها المعلمون. وليس من المنطق ولا من المفهوم لقطاع تربوي قيمي أن يكون حراكه وانتفاضته بمعزل عن كل هذا وعن وحدة المشكلة والمعاناة لمختلف مواطني وقطاعات الدولة. أليس هذا على حساب سلامة التوجه ورسالتهم الوطنية ؟. وهنا فنحن لا نطالب المعلمين بالرضوخ والإستسلام ولكن بحوار مع النفس وتعديل المسار.

وفي الرسالة الوطنية لا أقصد التعليم، فهو مع الأسف خارج كل اللعبة، فالأساس الذي يُعلِّمون أو يُدرّسون عليه الأجيال فاسد وهدّام لأنه يقوم على سياسة تلقينية انتقائية تبرمج العقول وتحارب البحث للوصول للحقائق في حقل الإنسانيات وتقتل الإبداع في حقل العلوم. ولم يكن هذا محل حراكهم أو له نصيب فيه مثلاً. وإنما أقصد رسالتهم التربوية بما فيها من هامش تنمية وترسيخ القيم الوطنية والإنسانية والتشاركية بهموم الوطن والمواطن وتعزيز مبدأ المصلحة العامة، فممارسات المعلم هي النموذج الأبلغ لترسيخ المبادئ. فهل المعلمون في حراكهم الفئوي المرتبط بقاؤه وإنهاؤه بتحقيق هدف مالي يخصهم وحدهم بمعزل عن هموم الوطن وناسه وعن هموم العملية التربو- علمية يخدمون رسالتهم. لا أجد أي مبرر حميد لاستبسال المعلمين وتضحياتهم في هذا النوع الحصري من الحراك عندما يكون في سياق مناهض للفكرة الإيثارية ولوحدة الهم وسمو أولوية الوطن وسلامة حقوق الجميع، ولا أجده حراكاً واعياً يحاكي أسباب أزمتهم الحقيقية وارتباطها كغيرها من أزمات بقية القطاعات بمأزومية الحكم والدولة النابعتين من النهج السياسي القائم

حراك المعلمين بحجمه العددي والنوعي بحاجة الى انعطافة وطنية عميقة النظرة تطاول ثقافتهم وهموم الوطن والأجيال والمبدأ الذي تقوم عليه رسالة مهنتهم. فهو ليس بعمق مشاكل الشعب والوطن والدولة، وفيه لسعة في التربية الوطنية. وليس لهم كطليعة مجتمعية أن يختصروا مأساة وطن وشعب ودولة في مظلمتهم الخاصة بهم وهي عينة من أبسط المظالم القطاعية، وماذا نقول لقطاع العاطلين والفقراء المسحوقين والباحثين عن رزقهم في الحاويات. كلها حزمة واحدة ضمن سياسة الإفقار والإذلال والتجهيل والفساد كمتطلبات لتحقيق أهداف النهج السياسي المفروض على نظامنا ودولتنا.

الحراكات المطلبية والجهوية والعشائرية مساراتها خاطئة ولا نريد للمعلم تكريسها بحراكه. على أن يكون معلوماً للجميع بأن فشل مثل هذه الحراكات المطلبية الفئوية يساوي في النتيجة نجاحها، ففشلها يؤدي لترسيخ الإستسلام وللعبودية، ونجاحها لا يكون إلا بفتاة طُعم واهم يؤدي للتدجين على ذات الإستسلام والعبودية. فهل يستبق حراك المعلمين النتيجة بتطوير خطابه واستثمار زخم التعاطف معه بجعله شمساً وقّادة تقود الشعب نحو مكمن الجرح الوطني؟ فالحرب بالنسبة لعقل الدولة العميقة كر وفر لا هدنة فيها حتى الركوع، وبئس النظام الذي يسعى لتركيع شعبه وبئست طلائعه إذا ركع..
كاتب وباحث عربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى