
حين تحكم #الطائفة و ننصت الى #رجال_الدين… تضيع #الدولة
قلم : المهندس محمود ” محمدخير” عبيد
في أحد أحياء المشرق، جلس رجلٌ عجوز على كرسيه الخشبي المهترئ، يحدّق في الغروب وكأن لون الأفق كان يحكي قصة دمٍ قديم. قال لي هامسًا “يا بني… لقد شوّهوا الله حين جعلوه وسيلة للسيطرة، لا ملاذًا للرحمة.”
لم أفهمه في حينه، حينما كنت أؤمن أن لا حل إلا بحكم الدين و ان #الدين هو مرساة العدل و الحق، وأن من لا يُطالب بدولة دينية فقد تاه عن الصراط المستقيم. كنت شابًا، مخلصًا في النية، لكنني لم أكن أرى بعد ما يُخفيه الشعار من شهوة السلطة، وما يُغلفه الخطاب الديني بمختلف العقائد و الطوائف من طموحات دنيوية و سياسية جشعة.
ها هي السنون قد مرت، وسقطت الأقنعة.
في @لبنان، لم تُبنَ دولة، بل بنيت طوائف تتحاصص السلطة وكأنها غنيمة. #المواطن مجرد تابع، صوته لا يُحسب إلا إذا كان صوت الطائفة. وفي الأزمات، لا صوت يعلو فوق صوت الزعيم، حتى لو احترق البلد.
في العراق، وُلدت بعد الغزو دولة على الورق، لكنها تشظت في الواقع إلى طوائف، كل منها تستقوي بالخارج، وتُقصي الآخر باسم المذهب أو الهوية. لا دستور وُضع إلا ليُخترق، ولا دولة قامت إلا لتُقسم. الطائفية ليست فقط أداة حكم هناك، بل أسلوب حياة، ووقود دائم لعدم الاستقرار.
أما سوريا، فقد كانت لوحةً فسيفسائية فريدة، حتى جرى تسييس الطوائف واستخدامها كخطوط تماس. بحيث تحوّلت الدولة إلى ساحة رعب، لا لأنها متنوعة، بل لأنها ما زالت ترفض أن تؤسس نظامًا مدنيًا عادلًا يجمع هذا التنوع تحت راية واحدة. هناك، كما في غيرها، فالدولة لم تهزم في يوم بسبب “المؤامرات” و الفتن، بل بسبب غياب العقد الوطني المدني الذي يجمع المكون الوطني و النسيج الاجتماعي تحت مظلة الوطن، فالمواطنة لا تقاس الا بالانتماء و ما نقدمه للوطن، المواطنة لا تقاس بقال الله و قال الرسول و كم ركعة ادينا اليوم لرب العالمين و طريقة ارتداءنا للثياب، المواطنة تقاس بما نقدمه للوطن و كيف نحافظ على ارثه و تاريخه و ندافع عن أبناءه بغضالنظر عن عقيدتهم او طاءفتهم.
وفي فلسطين، رغم خصوصية الاحتلال، يبقى الأمل قائمًا في نموذج مدني جامع. دولة واحدة يعيش فيها الفلسطيني واليهودي، لا كخصمين، بل كمواطنين متساويين في الحقوق والواجبات.
ربما يبدو هذا ضربًا من الحلم وسط واقع دموي، لكن الدولة المدنية هي السبيل الوحيد لكسر حلقة الدم والثأر.
حين تُصبح المواطنة أساس الانتماء لا الدين، يمكن للجراح أن تندمل، وللمكان أن يتّسع للجميع.
لكن أكثر ما يُثير الغيظ، أن الدولة المدنية تُنعت اليوم بالإلحاد. وكأن كل من يدعو إلى العدالة خارج إطار الدين يُراد له أن يُكفّر، أو يُخوَّن.
وهنا يجب أن نسترجع الحقيقة التاريخية والدينية الكبرى التي يُنكرها كثير من رجال الدين اليوم:
أن الرسول محمد ﷺ نفسه هو من أسس أول دولة مدنية في التاريخ.
في وثيقة المدينة، التي جمع فيها المسلمين واليهود والمشركين تحت “عهد” واحد، لم يشترط الإسلام، ولم يُقصِ أحدًا، بل أقام دولة تحكمها العدالة، ويُصان فيها الدم، وتُحترم فيها التعددية. لم تكن الدولة “دينية” بالمعنى السلطوي، بل دولة قانون، ومواطنة، ومسؤوليات متبادلة. فمن أين جاء من يزعم اليوم أن المدنية تعني الإلحاد، وأنها ضد الشريعة؟
هل صار محمد ﷺ ملحدًا بمعاييرهم؟ أم أن التاريخ صار يُقرأ حسب مصالحهم فقط؟
إن الدولة المدنية ليست ترفًا، ولا موضة غربية، ولا سلاحًا ضد الدين. هي ببساطة: الدولة التي لا تُفرّق بين الناس في الحقوق بسبب مذهبهم، ولا تمنح الامتيازات بسبب الطائفة، ولا تقمع باسم السماء.
هي الدولة التي تقول لك: صلِّ كما تشاء، آمن كما تريد، لكن لا تفرض إيمانك عليّ، ولا تقتلني لأنني مختلف.
هي الدولة التي تحمي المساجد كما الكنائس، وتمنع رجل الدين من أن يصبح تاجرًا بالدم، نحن لا نرفض الدين، بل نرفض احتكاره. لا نهاجم الإيمان، بل نرفض أن يتحوّل إلى منصة للتكفير والتحريض والاستحواذ. نريد دولة يرى فيها الشيعي والسني والمسيحي والدرزي والعلوي واليهودي والملحد أنفسهم مواطنين، لا غرباء في وطنهم.
قال لي العجوز في آخر مرة رأيته فيها:
“إن لم تبنِ وطنًا للجميع، فستنهار في بيت الطائفة. وإن لم تؤمن بالعدالة، ستُحاكمك السماء بصمت الضحايا.”
وأنا، بعد كل ما شهدته، أصدقه