حوار غير منشور مع الراحل حسن الترابي

سواليف
غيّب الموت في الخامس من مارس/آذار الجاري القيادي والمفكر والسياسي الإسلامي السوداني، حسن الترابي، بعد حياة حافلة بالعمل السياسي والنشاط الفكري وفي الحكم والمعارضة. وقد ظل شخصية جدلية وإشكالية إلى حد بعيد
في الحوار التالي معه، والذي ينشر لأول مرة، وأجري في الدوحة في 7 أكتوبر/تشرين الثاني 2012، يطرح الترابي آراء وتصورات بشأن ما يحسن بالإسلاميين أن يكونوا عليه في الحكم، بعدما وصلوا إليه، في بعض البلاد العربية، في أجواء ثورات الربيع العربي. يقول إنه يأمل أن يكون الإسلاميون سنداً للحريات، لا قامعاً لها، ويقرّ بما فشلت فيه الحركة الإسلامية السودانية، ويقول إنها في مرحلة مزاولتها السلطة لم تحوّل تجربتها السياسية إلى نجاح تنموي واقتصادي. ويرى الترابي في أجواء الثورات العربية أن أيام حكم الرئيس السوداني عمر البشير معدودة. وينتقد “الإخوان المسلمين” بقوله إنهم يعلون من قيمة مبدأ الشورى في الخطاب، ويتنكرون له في الممارسة. ويأتي الحوار على آراء فقهية جدلية للترابي، ومنها أنه لا يوجد حكم للمرتد في الإسلام.

* لو طُلب من الدّكتور حسن الترابي أن يقدّم نفسه، ماذا يقول؟

– حسن الترابي، مواطن سوداني مسلم حرّ، يريد أن يعيش بين مواطنين أحرار، أنشد المساواة بيني وبينهم، لي ولهم.

* الحركة الإسلاميّة في السّودان من الحكم إلى المعارضة، ماذا تغيّر؟

– قبل الحكم، كنّا في المعارضة. وبعد الحكم، عدنا إلى صفّ المعارضة. وبين هذا المسار وذاك أمور كثيرة تغيّرت، لكنّ الثّابت أنّنا كنّا، في كلّ المراحل، نناضل من أجل مجتمع سوداني أفضل. عارضنا جعفر النّميري في سبعينيات القرن الماضي احتجاجاً على الدّيكتاتوريّة، فتمّ اعتقالي وأتباع جبهة الميثاق الإسلاميّة، وكنّا من الفاعلين في الثّورة الشعبيّة على نظام النميري سنة 1985. أسّسنا بعد ذلك الجبهة الإسلاميّة القوميّة، وساهمنا في تشكيل حكومة الإنقاذ سنة 1989، وأيّدنا تسلّم العسكر للسّلطة، على أمل أن يحافظ رجال العسكر على الوحدة الوطنيّة للبلاد، وحتّى نضمن الاستقرار والسّلم الاجتماعي. وشاركنا في الحكم عشر سنوات، وذلك إلى حدود العام 1999، بعدها انقلب عمر حسن البشير على الشرعيّة الشعبيّة، وحلّ البرلمان، وانخرط في مسارات التّفريط في مكتسبات البلاد، وفي فرض الحكم الأحادي والتّفتيت الدّاخلي للوحدة الوطنيّة. وأمام استشراء الفساد الإداري والمالي والسّياسي، أسّسنا حزب المؤتمر الشّعبي في 31 يونيو/حزيران 2001، بمعيّة عدد من رموز ثورة الإنقاذ الوطني ومسؤولين آخرين انسحبوا من حكومة العسكر، واختاروا النّضال من أجل تغيير سلمي للسّلطة في البلاد. وقد واجهنا، خلال العشريّة المنقضية، مختلف ألوان التّنكيل والمتابعة والمحاصرة والملاحقة من نظام البشير. واشتدّ ذلك، بعد توقيعنا مذكّرة تفاهم مع الجبهة الشعبيّة، وبعد انخراطنا الفعلي في حركة المعارضة الوطنيّة للحكم الفردي، وقد تمّ اعتقالي سنة 2004 سنواتٍ، بتهمة محاولة الانقلاب على النّظام. وبناء عليه، نحن في السّودان لم ننته بعدُ من مشروع السّعي إلى إقامة الدّولة العادلة المنشودة.

* كيف تقيّم إدارة الإسلاميّين تجربة الحكم في السّودان؟
– نجحنا نسبيّاً في إدارة عدد من المشاريع، فأشعنا في الاجتماع السّوداني روح الاعتزاز بالانتماء إلى هذا البلد، ودفعنا نحو تحرير المرأة وتأمين حقوقها، ونشرنا اللّغة العربيّة، ونجحنا في تعريب كلّ العلوم، خصوصاً الهندسة والاقتصاد والطبّ وغير ذلك، وساهمنا في إحياء المنظومة القيميّة الإسلاميّة. لكنّنا فشلنا في مناحٍ أخرى، فلم نحوّل تجربتنا السياسيّة إلى نجاح تنموي واقتصادي، ولم نترجم الإسلام في حياتنا العمليّة وسلوكنا الحضاري/ المجتمعي، وانبرى آخرون إلى قمع الحرّيات، وإلى احتكار السّلطة وادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة. ولا أخفيك بأنّ بعضهم أخذته فتنة السّلطان، وأرسل يديه في المال العامّ بلا رقيبٍ ولا حسيب، ما أدّى إلى إعادة إنتاج نظام تَغَوُّل الدّولة، ومافيا إهدار الطّاقات والثّروات.

* ما أسباب الفشل في نظركم؟
– لم يكن الفشل كلّيا كما أسلفت، لكنّ أسباب الفشل الحاصل عدّة، فَشَلْنا لأنّنا لم نستعدّ لتجربة الحكم على أحسن وجه، ولأنّنا لم نكن نتوفّر على المقدار الكافي من الوعي بمعطيات الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسّياسي بالبلاد، وكانت أوّل تجربة للإسلاميّين في الحكم، فلم تكن لنا سابقة نستفيد منها، ووجدنا أنفسنا في مواجهة مشاريع عدّة، وتحدّيات جمّة، ولم نجد السّند من الفرقاء السياسيّين في الدّاخل. كما أنّ تجربة الإنقاذ الوليدة قد وُئدت وهي في طور النّشأة، فقد حاصرتنا الدّول العربيّة قبل الأجنبيّة من قبيل مصر والسعوديّة، ولم نجد الغطاء الدّولي المناسب الذي يمكّننا من إنجاح التّجربة. يُضاف إلى ذلك أنّنا لم نكن نتوفّر على أنتلجنسيا سياسيّة قادرة على إدارة دفّة الحكم، بل كان الحكّام الجدد خليطاً من الصوفيّة والعسكر وطلاّب الكراسي. زد على ذلك كله أنّنا ركّزنا، خلال فترة حكمنا، على جبهة العمل السّياسي. وأهملنا في المقابل جبهة العمل الثّقافي، والعمل الدّعوي، والعمل الجمعياتي المدني، ما أدّى إلى انحسار جهدنا في مواجهة خصومنا السياسيّين، وهو ما استهلك منّا الكثير من الوقت والطّاقة في غير كبير فائدة.

* كيف ترى الواقع العربي بعد وصول الإسلاميّين إلى الحكم في بعض دول المنطقة؟
– نتمنّى أن لا يكون الرّبيع العربي موسميّاً، وأن يكون التحوّل التّاريخي الذي عرفته الأمّة جذريّاً نحو بناء دولة عادلة توفّر الحقوق، وتؤمّن الأداء النّزيه للواجبات. والملاحظ أنّ التّجربة ما تزال في بداياتها، وتلك مرحلة يُتوقّع فيها التعثّر والانتقال المتّئد نحو الأفضل، لكنّ الإسلاميّين، اليوم، أحبّوا أم كرهوا، هُمْ في لحظةٍ تاريخيّةٍ مصيريّة، ومن الواجب عليهم تحويل شعارات الثّورة في طلب العدالة، والتّنمية، والحرّية، والكرامة إلى حقيقة معيشة يحياها النّاس. أنا أعلم أنّ الأمر صعب، لكنّ تحقيق المراد ممكن، فقط بشيء من الصّبر، والعزم، والتزام التدرّج لا التسرّع، والعمل على إيجاد التّوافق وتوظيف كلّ الجهود والطّاقات في المجتمع على اختلافها لكسب معركة البناء. ومن المفيد، في هذا السّياق أيضاً، الإفادة من تجارب الآخرين، والتعلّم من الأخطاء، ومراكمة جهود الخلف على جهود السّلف.

* ما هي أهمّ التحدّيات التي تواجه إدارة الإسلاميّين الحكم؟
– التحدّيات كثيرة، فنحن إزاء حركات عاشت مبعدة عن المشهد السّياسي عقوداً، والإسلاميّون في تونس ومصر وليبيا عاشوا لعقود العذاب، والتّشويه، والملاحقة في عهد الأنظمة المستبدّة. ولمّ شتات الحركة الإسلاميّة، بعد سنوات الإقصاء، وإعادة هيكلتها ودخولها معترك الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة أمر صعبٌ لا محالة، فليست لدى الجماعات الإسلاميّة تجربة في الحكم، وتكليف النّاس لها بهذه المهمّة يُعدّ تحدّياً كبيراً، وأنت ترى أنّ سياسة البلدان، في الفترات الانتقاليّة، أمر عسير، فالنّاس يفجّرون كلّ مكبوتاتهم في وجه الحكّام الجُدُد. لذلك، تتزايد الحركات المطلبيّة والاحتجاجات الشعبيّة، وتُفتح أمام الإسلاميّين، اليوم، جبهات عدّة، من بينها التّنمية، وإقامة العدالة، وإنصاف المظلومين، ومحاسبة الفاسدين، وتشغيل العاطلين، والإحاطة بالمعوزين، وتهيئة البنى التحتيّة للبلاد، وإعادة تشكيل الثّقافة والصّحافة والإعلام، وإصلاح الإدارة. ذلك كله تحدّيات جمّة، ضخمة، تقتضي تكاتف جهود الإسلاميّين وغير الإسلاميّين، والتفاف كلّ المواطنين، من أجل تحقيق النّهضة المرجوّة، وإلاّ فإنّ الثّورة قد تأكل نفسها، بسبب عودة خصومها، والتأخّر في تحقيق أهدافها.

* بماذا تنصح من تولّى مقاليد الحكم من الإسلاميين؟
– استفاد الإسلاميّون، اليوم، أيّما إفادة من رصيدهم النّضالي السّابق في مقارعة الدّيكتاتوريّة، وهناك من صوّت لهم متعاطفاً معهم. وعلى سبيل الانفعال الوجداني مع الضحيّة، أمّا اليوم فهم في موقع الحاكم، لا المعارض. وبناءً علـى طبيعة سياساتهم تجاه النّاس، سـيزداد تأييد المواطـنين لهم أو ينحسر. لذلك، أنصحهم بأن يحذّروا فتنة السّلطة وأبّهة الحكم، وأن لا يقيموا الحواجز بينهم وبين المحكومين، وأن لا يتحوّلوا إلى حزب/ طبقة، مثلما حصل مع الأحزاب الاشتراكيّة والأحزاب القوميّة واللّيبراليّة في عدد من الدّول العربيّة. السّلطة مفسدة، وأبواب الفساد أمام الحاكم مُشْرَعَةٌ وكثيرة، وأحرى بالإسلاميّين أن يكونوا في مستوى الأمانة والمسؤوليّة، وأملي أن يكونوا سنداً للحرّيات لا قامعا لها، وأن يجدّوا في تحقيق أحلام الثوّار والمضطهدين، وآمل ألاّ يأخذهم الكِبْرُ وألاّ يغلبهم التّعالي.

* كنت من أوائل الدّاعين إلى تجديد الدّين، والمنادين بتطوير فقه السياسة داخل الاجتماع الإسلامي. هل ترى ما ناديت به من طلب التّغيير والتّجديد قد تحقّق؟

– لا، ليس بعدُ، فما يزال مسلمون كثيرون يتمثّلون الدّين بطريقة آليّة وراثيّة، ويرجّعون الآيات والأحاديث، في غير علم بماهيتها ومناسباتها، ويصدرون الأحكام جزافاً، بل هناك من يفتي بغير علم، والعطالة الذهنيّة ما تزال منتشرة في النّاس. أمّا الاجتهاد فمحدود، وإيمان العجائز هو الغالب، فلم يتمّ تحويل الطّقوس الإسلاميّة إلى سلوكٍ تربويّ يوجّه حياة النّاس، والحال أنّ الإسلام منهج وسلوك عمليّ، والحاجة أكيدة إلى الوصل بين العلم والعمل. الجذر في العِلم والعمل واحد، وهو (ع. ل. م)، وصدور الجذر بتلك الطريقة في لغة الضّاد دالّ على حتميّة ربط العِلم بالعمل، فعِلم معلّق بالكتب أو واقر في الصّدور بغير عمل لا يفيد.

* ما هي المبادئ الإسلاميّة التي تراها معلّقة، ولم تُجرَ في الاجتماع الإسلامي بعدُ؟
– مبادئ عدّة. مثلاً، مبدأ الشّورى. ظلّ في تاريخ المسلمين مبدأ فضفاضاً، وكان إنجازه مؤجّلاً، وأنا عاشرت الإخوان المسلمين في مصر والسّودان والأردن، يتكلّمون فيُعْلُون من قيمة مبدأ الشّورى في الخطاب، لكنّهم يتنكّرون له في الممارسة، وإذا جادلتهم، قالوا لك الشّورى مُعْلِمة وليست مُلْزِمة. قد يقولون لك، مثلاً، شاور النّساء، لكن لا تعتدّ برأيهنّ، هل نسي هؤلاء أنّ المرأة كائن فاعل، أكرمه الله بمهمّة الحمل، وأجلّه الرّسول، فقد كان يلتقي النّساء، ويحاورهنّ ويجالسهنّ ويشاورهنّ في الأمر. نحن في حاجةٍ إلى التحلّي بأخلاق الإسلام في التّعامل مع النّاس، وفي إدارة شؤون الحكم، فمن المهمّ إحياء قيم التّآخي والتّراحم، والتّسامح وخدمة الرّاعي للرعيّة، وقيم طلب العلم والتّواضع والأمانة والوفاء بالعقود وبالوعود والعدل بين النّاس، والإشفاق على المساكين والأخذ بيد الفقراء. خذ مثلًا آخر: مبدأ التّسامح والاختلاف، أليس ذلك من صميم الدّين؟ أليس الاختلاف رحمةً، كما قال تعالى “ولولا دفع الله النّاس بعضهم ببعض لفسدت الأرض”، ألم يشيّد المسلمون أعظم حضارة في الأندلس في مجتمع تعدّدي، جمع المسلم وغير المسلم، والمتديّن وغير المتديّن، فكان الاختلاف سبب ثراء وتقدّم، واليوم يخرج علينا بعضهم رافعاً راية التّكفير والإقصاء والتفرّد بالحقيقة!

* هل تؤيّد تقسيم المجتمع إلى مؤمنين وكفّار؟
– كلّا، الإيمان مسألة شخصيّة فردانيّة، بين المسلم وربّه، ولا سبيل إلى الوصاية على النّاس في هذا الخصوص، فنحن لا نعلم بما تخفي النّفوس، والكفر في اللّغة هو التّغطية، أي تغطية الفطرة. كان الرّسول يعيش في مجتمعٍ فيه غير المسلمين وغير المتديّنين، ولم يبادر بإقصائهم أو تأليب النّاس عليهم، فالإيمان أو الكفر مسألة ذاتيّة، ولا سبيل لإكراه النّاس، أو دفعهم على تبنّي عقيدة مّا.

* ما موقفك من القائلين بالردّة وإقامة الحدّ على المرتدّ؟
– هذا هراء، لا يوجد حكم للمرتدّ في الإسلام، قرآناً وسنّة، والانتماء إلى الدّين أو الخروج عنه مسألة شخصيّة لا دخل للآخرين فيها.

* هل تقبل بتحكيم مرجعيّة الأزهر في الفتاوى؟
– لا أعتبر الأزهر مؤسّسة دينيّة مرجعيّة فيصلاً، فليس هناك كنيسة ولا مؤسّسة بابويّة في الإسلام، هم مجتهدون ونحن مجتهدون، والدّين مشروع قراءةٍ لكلّ مسلم، والتّرجيح لمن كانت حجّته أوضح وأقنع.

* تُعرف بأنّك وضعت اجتهاداتٍ لم يسبقك إليها الفقهاء، واتّهمك بعضهم بالضّلالة وركوب البدعة، فما رأيك؟
– لقد دعا الله إلى تدبّر كلامه والاجتهاد قدر المستطاع في تسيير شؤون النّاس، وتنظيم حياتهم وفق ما يقتضيه الصّالح العامّ. وقد بيّنت في كتابي “التّفسير التّوحيدي” وجهة نظري في فهم النّصوص، قرآنا وسنّة. واعتبرت أنّ رأي السّابقين أعود إليه، واستأنس به، لكنّه لا يحول دون إعمال الرّأي وممارسة حقّي في الاجتهاد. وأنا أقول إنّ من حق المرأة أن تؤمّ النّاس في الصّلاة مثل الرّجل، ولا أجد في كتاب الله وسنّة رسوله ما يمنع ذلك، ومن حقّها الرّئاسة، والولاية، فهي ذات عقل وذات دين. وهذا ما أثار سخط بعضهم عليّ، وبلغ بهم الأمر حدّ اتّهامي بالكفر. وقلت، أيضاً، إنّ زواج المسلمة من الكتابيّ ممكن، وأنّ الشّرع لا يمنعه، ولديّ اجتهادات أخرى في مسائل عدّة، لم يقبلها شيوخ الأزهر، وغيرهم من أعلام السلفيّة والقراءة الأحاديّة التقليديّة للنصّ المقدّس.

* ما رأيك في صعود التيّار السّلفي في دول عربيّة؟

– لا أرى أنّنا إزاء ظاهرة شعبيّة لها أنصار كثيرون في البلاد العربيّة، فإذا استثنينا مصر، فإنّ هؤلاء قلّة في تونس وليبيا، ولا يشكّلون خطراً حقيقيّاً على الدّولة، بل يتمّ النّفخ في صورتهم إعلاميّاً لخدمة أغراض خاصّة. وفي نظري، السلفيّة شكل من التخلّف، ومظهر من الإسلام المتطرّف، وهي حركة منغلقة تفهم النّصوص بشكل حرفي، وتجد الدّعم من أطرافٍ متنفّذةٍ وغنيّةٍ في الدّاخل والخارج، وهي أطراف تسعى إلى التحكّم في مسارات التحوّل نحو الحرّية والعدالة في عدد من دول الرّبيع العربي، وتحاول التّأثير على استقلاليّة الدّول، والتدخّل في سيادتها. ولا أستبعد أن تكون السلفيّة مخترقةً من أطرافٍ استخبارية عدّة وخادمة أجندات أجنبيّة. لكنّها، على الرغم من ذلك، تبقى ظاهرة لحْظِيّةً، عابرة مثل الجماعات اليساريّة واليمينيّة المتطرّفة في الدّول الغربيّة، وهي ظاهرة بلا عمق فكري وجماهيري. لذلك، مصيرها الانحسار أو الاندثار.

* هل تؤيّد الخروج على الحاكم؟

– أؤيّد ذلك إذا كان الخروج سيؤدّي إلى مصلحةٍ لا مفسدة، وإذا كان الطّريق إلى التّغيير مأموناً، ولا يضرّ بالنّاس وأموالهم وأعراضهم، ويمكن أن يقيم حكماً أفضل من الحكم القائم، فالخروج العشوائي مغامرة خطيرة، غير معروفة العواقب.

* هل التقيت أسامة بن لادن؟
– نعم زرته مرّة، و زارني مرّة.

* هل أمّنت له اللّجوء السّياسي في السّودان؟

– لا، لم أفعل، بل فعلت ذلك الحكومة السودانيّة، ولا علاقة لي به من قريب أو من بعيد، وكان بيتي قِبْلَةَ كلّ زائر إلى الخرطوم، وقد زارني هارباً من عدد من السلفيّة المتطرّفين الذين أرادوا اغتياله. وقد جادلته قليلاً، فوجدته مختلفا عنّي، ورأيت أنّنا لسنا على الموجة نفسها، فكأنّي وهو كموجات الرّاديو، أنا على موجة طويلة، وهو على موجة قصيرة، ولا سبيل إلى أن نلتقي البتّة، وكان استقباله في السّودان لأسبابٍ استثماريّة اقتصاديّة، لا غير.

* هل تتوقّع ثورة على نظام البشير؟
– نعم، الثورة آتية لا محالة، وأيّام البشير معدودة، وقد تراجعت شعبيّة العسكر بين النّاس، وأصبح النّظام معزولاً في الدّاخل والخارج، لكنّنا نريدها ثورةً سلميّة، تضمن الانتقال السّلس للسّلطة إلى أطرافٍ وطنيّةٍ أخرى وفاعلين سياسيّين جُدُدًا يختارهم الشّعب بمحض إرادته.

* يذهب بعضهم إلى أنّ الرّبيع العربي صنيعة قطريّة، بإخراج أميركي وتنفيذ إسلامي حركي؟
– الرّبيع العربي منتَج عربيّ خالص، صنعته الشّعوب العربيّة المنتفضة على الدّولة الجائرة، صنعته نضالات المساجين السياسيّين، والمظلومين، والمقهورين، والمعارضين للحكم المستبدّ في العالم العربي على مدى عقود. وكانت الثّورات العربيّة نتاج تراكم الإحساس بالظّلم والقمع، فقد ولّد الكبتُ الانفجارَ، وكان ما كان. وفكرة المؤامرة هاجسٌ ركب العرب، أو ركبوه من زمن بعيد، فهم يردّون أزماتنا إلى أميركا وإسرائيل والصهيونيّة العالميّة. وأصبحوا اليوم يردّون انتصاراتنا وأمجادنا إلى المتآمرين، فبئس ما فعلوا، يريدون تقزيم الثّورة والثوّار، والتّشويش على هذا التحوّل النّوعي في تاريخ العرب، سامحهم الله! أمّا الإسلاميّون فلم يكونوا يتوقّعون، أصلاً، زوال الطاغية (زين العابدين) بن علي ولا سقوط الدّيكتاتور (محمد حسني) مبارك، ولا نهاية (معمر) القذافي بتلك الطّريقة، وقد التقيتهم أكثر من مرّة قبيل الثورة، ورأيت عندهم قنوطاً من المستقبل، وما خطر على بال أحد أن يثور النّاس، ويرحل الطغاة عن بكرة أبيهم، لكنّ ربّك فعّال لما يريد، وإرادة الشّعوب لا تُقهر.

* كيف يبدو لكم مستقبل الإسلام السّياسي في العالم العربي؟

– التّفكير في المستقبل أمر ضروريّ، وإذا أراد الإسلاميّون أن ينجحوا في تجربة الحكم، فعليهم بالتّخطيط والنّقد الذاتي والتّجديد، ففي التّخطيط وعي الماضي والحاضر، واستشراف للمستقبل، وفي النّقد الذاتي معرفة بالنّواقص، وتدارك للأخطاء، وإعادة بناء للذات، وفي التّجديد مواكبة للعصر، وانفتاحٌ على العالم بلغةٍ عربيّةٍ حيّةٍ، وبقيم إسلاميّة سمحاء، تتفاعل مع الحداثة، وتستفيد من العلماء والمفكّرين، على اختلاف انتماءاتهم الإيديولوجيّة والعرقيّة، وتوظّف التّقانة للتّعريف بالوجه الحقيقي للإسلام، ولتّرويج فكر مستنير. ويتبين النّاظر في السّاحة السياسيّة اليوم أنّ الإسلاميّين هم أقلّ فشلاً من غيرهم، ولا نكاد نجد بديلاً عنهم، فقد جرّب العرب الاشتراكيّة والقوميّة واللّيبراليّة التي أنتجت أنظمةً استبداديّةً قمعيّةً على مدى ستّة عقود من قيام دولة الاستقلال. أمّا الآن، فالملاحظ حاليّا أنّ العلمانيّين لا يحظون بتأييد شعبيّ كبير، فالفجوة التنظيميّة والتنظيريّة والبرامجيّة بينهم وبين النّاس كبيرة، ويبدو الإسلاميّون في موقع المؤهَّل لقيادة المرحلة المقبلة، وهي مرحلة تقتضي الكثير من الجدّ، والدقّة، والرّصانة، والعلم، والعمل، ونأمل لهم التّوفيق، بما يخدم مصلحة النّاس كافّة.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى