هذا أولُ انخذالِ أمرنا

هذا أولُ انخذالِ أمرنا
محمد أمين المومني

     قد لا تكون كلمة الانخذال قاسية على صاحبها، بالقدر الذي تكون انكشافاً للغفلة التي يعيشها، ليتحولَ الانخذال ليقظةٍ وصحوةٍ لمكنون الأزمة، فالأمس يُخبرنا والحاضر يمقتنا، ولن يكونَ الغدُ على غير صورة الماضي، فباتَ بحكم المؤكد أنه سيسير حذو الذي سبق، فاليومَ قد كان غدُ الأمس، وحلَّ بنا الذي تعلمونه، فكيف للمستقبل أن يحملَ في طياته أملاً أو أمنية، كان الخذلان قاسماً مشتركاً بين جميع الأزمان، ولكن الذي اختلف؛ أنَّ الأمس كان مُبطناً، واليوم أضحى مُعلناً.

     كنت قد أفردتُ في مقالات استبقت ما نحن فيه، وتحدثتُ بأنَّ السيء لم يأتِ بعد، وأنَّ الأزمات تأتي لتُعرَّي الحقائق لا أكثر، وأنَّنا قد دخلنا ليلاً لم يأتِ نهاره بعد، فما زلنا نقبع تحت وطأة خريفٍ قاسٍ، والوصول إلى الرببع باتَ يتطلبُ معجزة السماء، ولم نلبث طويلاً حتى لقينا ذلك، وقد جاء الاقتطاع من الراتب المُرهَق والدخل المُضني، كطعنة خجنرٍ مسمومٍ في كبد كل مواطن.

     وكنت قد رجوتكم أن تُسلموا عقولكم إلى عواطفكم، فإذا فقهتم الصواب فإنَّنا في أزمتنا سنصير فيها مذبوحين كما كنا من قبل، ولكنَّ مشاعركم كانت تتملقُ بين المراوغة والمخادعة، حتى صُفعت وجهوكم بما هو أدهى أنكى مِن هذا الوباء، وكنت قد ناشدتكم بأن لا يَحمِلكم الوباء الأصغر “كورونا” على نسيانِ الوباء الأكبر، لكن الكلام المعسول قد غرَّكم وأظلكم.

     أما والله قد وقعَ في أنفسنا شكٌ منكم، ثم دافعناه و دفعناه، وقلنا لا تفعلها الحكومة وهي تعلمُ علم اليقين أن شعبها بالكادِ يجدُ قوت يومه، ولا يلقى في حياته إلا الضنك والمشقة من تدهور الأوضاع الاقتصادية، وأن ما يتبقى بعد اقتطاع القروض والالتزامات لا يوفر لهم إلا طعاماً يُمسِك أَوَدَهم ويدفع عنهم الموت، حتى جاءت باقتطاعٍ آخر يُوشك أن يقتلَ المرء كموتٍ بطيءٍ يتسلل لجسدٍ واهنٍ من الجوع والحرمان.

     عدة بنوك لم تلتزم بقرار تأجيل القروض، ما دفع بعض الأردنيات في سابقةٍ تاريخيةٍ للخروج عن المألوف والاستغاثة، وبات هذا الأمر المُستحدث مألوفاً في زمن قاسٍ وعسير، ووحده من يرى الموت يستغيث، وإذ بنا نموت مما نحن فيه، فلا أدري إن هذا نزاع الموت؟ أم نزاع الكرامة؟ ولست اعلم إن كان هذا “ردىً”، الإسم المرادف للموت، أم رداءةُ ما نحن فيه؟

     بصرفِ النظرِ عن الإجابةِ والدخولِ في نقاشٍ عمَّا سُئِلَ آنفاً، كما يفعل الأذكياء في تحويل انتباه الناس كاستغلال الأزمات حجةً وذريعة.. فإن اختلافنا بالإجابةِ لا يعني انتفاءَ الحقيقة.. ذلك أن الواقع أصدقُ وأعلم بطبيعة الحال، ولكن ماذا يفعل من ذهب نصف راتبه للقروض واليوم سيُقرِضُ الحكومة قرضاً حسناً، وإن كانت الطريقة ليست حُسنى.

     لا أقف نداً ولا ضداً لتأمين عمال المياومة، بل على النقيضِ من ذلك، لكنَّك لن تُفلِحَ إذا قمت بحل مشكلة واحدة، وفتحت أبواب مصائبٍ أخرى ستحل بكل بيتٍ وعائلة، لست مشرعاً ولا ناظماً؛ ولكن ما لا يتصوره عاقل، أن لا يكون للأزمات مكانٌ في تخطيطٍ ربما يحتاج لتخطيطٍ آخر!، لِمَ لا يكونُ للأزمات ميزانية وتحسبٌ تُغطي الفجوة التي ترافقها الأزمة؟ لماذا على المواطن أن يحتملَ كل ذلك من جيبٍ مقفرةٍ وباليةٍ وخاوية، أم أن الميزانية أرهقها الذي أنهكها؟

     إنك لن تفعل خيراً إن أطعمتَ العاطلين عن العمل وعمال المياومة لشهر أو اثنين، وتغافلتَ عنهم طوال السنين، وتتفاغلُ عنهم أيضاً في قادم الأيام، إنما الخيرُ أن تَجِدَ له حلاً قبل الأزمة وما بعد الأزمة، مما هو فيه من ضنك الحياة وقسوتها، وإنَّ ذلك لأصوب وأجدر وأكثر نفعاً، وما باتَ حقيقةً لم تُعلن بعد؛ بأنَّنا لم نصمد أمام هذه الأزمة سوى شهراً واحداً فقط من قرار حظر التجوال.

     يبدو أنَّ تأتي لتُعرَّي الحقائق لا أكثر، وأنَّ ما نحن فيه من سوأةِ الأحوال واضطراب الأوضاع لم يكن حصيلة أمر واحد فقط، أو نتاج “جائحة كورونا”، إنما هي محصلة أُمورٍ مُجتمعة، وخُلاصة سنواتٍ وسنواتٍ مِنَ الإهمال والإغفال، فأنتَ عزيزي القارئ وما أنت عليه الآن من حالٍ، ما هو إلا حاصل وتراكم السنين من عمرك، وليس حاصل شهرٍ واحدٍ من عمر حظر التجوال في كورونا.

Mo.almom16@gmail.com

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى