حروب بلا بنادق / د. هاشم غرايبه

حروب بلا بنادق

لا يقتصر دور أنظمة (سايكس بيكو) على الدور السياسي الموكل إليها في مجال ترسيخ شرذمة الأمة، من أجل قطع الطريق على استعادة وحدتها فقط، بل الأخطر من ذلك هو الدور الثقافي.
عنوان هذا الدور قطع التواصل مع الجذور، وربط الأجيال الناشئة بثقافة تغريبية إلحاقية بدعوى التطور واللحاق بالغرب المتقدم، وقد عملت الأنظمة بدأب ومواظبة على الإضطلاع بهذا الدور تحت ستار محاربة التخلف والجهل، وعلى ثلاثة محاور عريضة:
الأول: محاصرة السياسيين والمفكرين والمثقفين الإسلاميين واعتقالهم وإعدامهم (سيد قطب وبوتو ومندريس ومرسي)، ومنع الأساتذة والأكاديميين من التدريس في المعاهد والجامعات وملاحقتهم ومضايقتهم والتضييق عليهم في كسب عيشهم، مقابل احتضان ودعم المثقفين والكتاب العلمانيين، وتمكينهم من تبوأ مواقع التأثير الجماهيري ومراكز اتخاذ القرار، ودعم الكُتاب منهم بنشر كتبهم والإقتباس من نصوصهم في المناهج المدرسية ومنحهم الجوائز والأعطيات بحجة أنهم تنويريون حداثيون سوف تنقل أفكارهم المجتمع الى مدارج التقدم.
الثاني: في صياغة المناهج التعليمية المدرسية بحيث تؤدي الى تجفيف منابع الإرتباط بماضي الأمة تدريجيا ولغتها، وقد أوصلت جهودها المتواصلة بهذا الشأن الى نشوء الأجيال الجديدة المفرغة من مضامين العقيدة، وليس لديها إلمام بالمحطات المجيدة في تاريخ أمتها، بل كل معلوماتها تنحصر بأمجاد وإنجازات الزعيم الملهم الوهمية، كما أن التخلي عن تعليم العربية قطع أشواطا بعيدة، بعد أن اصبح التعليم الغالب هو وفق لغة ومناهج أجنبية.
وأما المحور الثقافي الثالث، فهو الفني، وهو الأخطر، لأنه يغطي جميع الفئات العمرية والمستويات الثقافية والإجتماعية.
الفن عموما هو اللغة العالمية الموحدة التي تصل الى وجدان الشخص، فتنبني مفاهيمه وتتأثر أفكاره، لذلك فقد أولت الدوائر الإستعمارية أهل الفن اهتمامها وتمكنت من استقطابهم لصالح برامجها، مستفيدة من حالة العداء المسبق التي صنعها المتشددون بتحريمهم الفن بجميع صنوفه، وبلا محاولة فهم أن الفن ليس كله فسوق وعصيان، بل إن أكثره يمكن توظيفه وفق مقتضيات العقيدة ولتحقيق غاياتها، لذلك فقد استفردت القوى العلمانية بقطاع الفن العريض على اختلاف مكوناته، فملكته بكامله وأصبح أحد أهم أدواتها وأكثرها تأثيرا في المجتمعات.
سأتناول هنا جانبا فنيا واحدا كمثال هو العمل الدرامي، وتحديدا المسلسلات التلفزيونية، وكيف وظفه هذا التحالف الثلاثي: (القوى الإستعمارية + أنظمة سايكس بيكو + اهل الفن العلمانيون)، فأصبح السلاح الأكثر فعالية من بين أدواتهم في صياغة المفاهيم المجتمعية.
في الدراما الأردنية، تجد معالجة المشكلات الإجتماعية المعاصرة في مسلسلات بدوية، مع أن البدو لا يشكلون سوى نسبة هامشية من المجتمع الأردني، فهو إما ريفي أو حضري، وخلال نصف القرن المنصرم تمكنت الدولة من القضاء على الزراعة، فلم يعد هنالك أرياف ولا حياة ريفية..فلماذا الإصرار على تصوير تاريخ الأردن الحديث على أنه بداوة؟…لا شك أن ذلك يخدم المقولة الصهيونية أن الأردن ليس وطنا، فسكانه مجرد بدو رحل، لذلك فبالإمكان جعله وطنا بديلا.
الدراما السورية مندمجة في مسلسل باب الحارة منذ عقود، ويعالج فترة محددة لا يغادرها ليتجنب طرح الواقع المأساوي الذي صنعه النظام الأسدي خلال نصف القرن المنصرم، لهذا فهو يغرق في تصوير المرأة على أنها غير متعلمة ولا دور لها إلا القيل والقال، وما قصص بطولات الثوار إلا عموميات من أجل التشويق، فهي لا توثق أحداثا تاريخية معروفة، لذلك فالمعالجات تستغرق في الماضي فتزوره على أنه كله تخلف، لتتجنب المشكلات الحقيقية المعاصرة، وكأنها تقول أن هذا التباين الهائل صنعه النظام.
الدراما التركية المدبلجة، لا تمثل المجتمع التركي المسلم بل الطبقة العلمانية، بكل العلاقات البعيدة عن روح الإسلام، بهدف تقبل العلاقات المحرمة على أنها عادية، وان الحمل خارج الزواج أمر معتاد، وان الصداقة بين الجنسين خارج الحياة الزوجية أمر مقبول.
أما المسلسلات المصرية والخليجية، فهي تمثل مجتمعا خاصا بفئة الأثرياء ولا تقترب من مشاكل الفقراء للإيحاء انه لا وجود للظلم الإجتماعي، واذا تعرضت لجانب سياسي فإنها تغرق بخزعبلات الإرهاب الوهمية للنيل من أحلام الغالبية العظمى التي تريد حكما إسلاميا.
هكا نرى كيف أن جانبا هاما من الجهد التعبوي النهضوي الملقى على عاتق مفكري الأمة، يتم افراغه وتحويل مجراه ضد مصلحة الأمة، بسبب إهماله وعدم الإلتفات الى خطورته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى