والعقل مياله

والعقل مياله
شبلي العجارمة

کعادتي لا أشتري مشاهداتي ولا مواد مقالاتي إلا من الشوارع النابضة بإنسان هذه الأرض ,ولا يحلو لي المسير إلا بين زحمة الباعة وأصوات الدلالين ,باختصار الحکاية لأن هذه الأصوات باتت هي الأصدق بين وحشة الصمت المطبق وبين الخوف والحراکات المباعة والاحتجاجات المقصودة لهز شجرة عصب الدولة للفت النظر واعتصار ثمار الأنا الأنانية .
استوقفني نموذجُُ أخذ ذاکرتي لما وراء مٸوية الدولة العميقة ,لرجلُُ قد بلغ من العمر عتيا ,بالکاد لا أعرفه حتی هذه اللحظة وهو لا يعرفني ,أرکن السيارة البسيطة شابُُ في مقتبل العمر کان يقود السيارة بهذا الرجل الکبير ,شدني من خلف زجاج سيارته عقاله المايل فوق قضاضته البيضاء الثقيلة ,شاربان أسودان کخوافي الغراب الأسحم لوناً وبشموخ الصقور ,کان العقال شديد الميلان والانحدار من جهة اليمين ,استغرق نزول الشيخ وقتُُ لا بأس به بالذات وهو يخرج جسده قبل رأسه من السيارة دون أن يضع إحدی يديه علی رأسه ,جاهد العم الشيخ طويلاً من أجل أن يبقی العقال علی نفس الميلان وبنفس الوقت أن لا يسقط علی الأرض .
خرج الجسد النحيل بکتفين أقل نحولة کانت تحمل عباءة شموخه کجناحي عقاب أهلك الريح وأتعب القمم وما تعب ,صعد الرصيف علی مهلٍ وهو لا زال يحافظ علی ميلة العقال والعنقرة کما يقال ,دخل إلی بقالة الخضار رغم فضول قطوف الموز المتدلية علی الباب لکنه لم يطأطیء الهامة ولم يسقط العقال ,تفقد کل بسطة الخضار والفاکهة العم الشيخ ,وبعدما سأل عن الأسعار انحرف عن أعين الزباٸن وولده المرافق وصاحب المحل وأخرج رزمة أوراق ومشط وکان من بينها مبلغ 11 دينار ,کنت أنا بزاوية مصور أقف وأعرف کيف ألتقط أدسم ما في المشهد ,فأعاد المال للجيب بعجالة وخرج وهو ينادي علی ولده والخضرجي يقول له “يا عم يا حج علی حسابك خذ الي بدك ياه وبنراعيك “,خرج العم من تحت قطوف الموز وهو يضع يده علی مقدمة العقال ويقول للخضرجي نرجعلك بعون الله بس نخلص مشوارنا .
دس العم جسده في السيارة بنفس طريقة النزول الرأس والعقال أولاً ثم الجسد ,فدفعني الفضول وألقيت عليه التحية وأنا قد وصلت إليه ,فقلت يا عم تسمحلي أبوس هالعقال الحشم وتناولته وقبلته فعلاً وأعدته علی رأٛسه ,واستقبل هذا التصرف وقد طلت ابتسامته من خلف شاربيه وهو يدوزن بالعقال ويعيده کما کان بميلان يصل حد شحمة الإذن وقد سألني “إنت ولد المن عموه علمني ?”,فقلت له لا تأخذنا بدوامة بعدين اقولك يا حج ,لکن ممکن أسألك عن ميلة هالعقال من وين جت عادتها وکمان شو قصتها ?.
ابتسم العم الشيخ وقال متنهداً أووه يا جيل اليوم انتوا ما تعرفوا شي ,قرب يا ولدي أقولك,فأصغيت له وهو يقول ;زمان أيام الغزو وحروب القبايل کانت الفرسان الي علی قد حالهم من کثر شجاعتهم وعزمهم تميل لصمة الشماغ لليمين من کثر مقارع السيوف والذبح والصلخ وما يطيح العقال ولا الشماغ ,وکانوا يعرفوا الفارس وشجاعته من ميلة عقاله وعقلته,انتهی حديث العم الشيخ وغابت سيارته في أزقة المدينة وتوارت عن عيني في الزحام وعرفت أنه کان حريصاً علی أن لا يتدحرج عقاله علی الأرض وحتی لو تدحرج داخل السيارة أقل حرجاً من الشارع .
ولا زالت کلماته عالقة في أذني أن النزال والطعان ومقارعة السيوف والموت ورکض الخيل في الوغی لم تثن البدوي الأردني عن ميلة عقاله ولا عن شماغه وعقلته وتنعقره !.
لماذا يصر اللصوص الصلع وأصحاب ربطات العنق المستوردة علی رفس هذا العقل وسحق الهامات التي تعتمره?,لماذا تصر السياسات العشواٸية والمبادرات الغوغاٸية علی تمييل الهامات والهمم لإنسان المٸوية لا لمٸوية التاريخ المزيف ?,لماذا تتعمد زمرة الانبطاح والهرولة ودکنجية السياسة التنظيرية سلب هذا الإنسان الإرادة والطوح أو أقل حقوق العيش والبقاء .
هذه الهامات التي تحمل العقل ولا زلت تعنقر بأسمی معاني الشموخ عمراها أطول من مٸوية الشعارت وعمقها أبعد من رزنامة التواريخ المزورة والمنسوخة بقلم العم سام وأشابينه ,بل هذه التقاليد هي النهضة الحقيقية التي حققت وجود هذا المکون الإنساني والجغرافي والسياسي .
أترکوا هذه العقل مياله دون المساس بالهامات التي تعتمرها منذ أکثر من مٸات السنين وهي تحملها من رأس لرأس ومن هامة لهامة حتی لا يعکر قداسة تقليدها الغبار أو تقطع مسافة العز من قمة الرأس وحتی قاع الظل تحت لقدمين .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى