طقوس الجمعة..

مقال الخميس 19-5-2016
طقوس الجمعة..
لقد أصبحت الأيام بلا ذاكرة، فتيلها قصير بارد ، لا تشتعل بالتفاصيل مهما حاولنا قدح كبريت الوقت بصوان الحدث.. شخصياً لا أذكر ما الذي جرى معي طوال هذا الأسبوع ، السبت مموهاً ، ولا جديد الأحد ،أما الاثنين فاجترار للدقائق ، والثلاثاء مر عاديا،والأربعاء يشبه من سبقوه وكذلك الخميس..
بالمقابل ما زلت أذكر تفاصيل جُمعتنا القديمة ..أذكر طقوسها منذ الفجر ، رائحة القهوة المغلية على “البابور”، دخان الطابون الذي يعبق في الحي ، أذكر طقطقات “اللقن” تحت قدمي في حمّام الأسبوع، أذكر “تنكة سمنة الغزال” وماءها المغلي الذي تتم معادلته بدلو حلاوة بارد ،ولا شيء يضمن عملية المعادلة سوى كأس بلاستيكي أحمر وأصابع أمي التي تجسّ درجة السخونة قبل ان تشرع في صب الماء على جسدي النحيل ..ما زلت أذكر رائحة صابون المفتاحين المميزة ،وحرقة العينين، ومشط العظم ماركة الفيل ،حيث الأسنان الحادة والمهمة الجادة في التمشيط…اما جالون”الفليتْ” الذي يختبئ على يمين أمي فوجوده بمثابة قوة احتياطيه تحدد تدخله من عدمه بعد أول “كرشتين”في المشط ..
أذكر قبّة الجامع الواسعة ،مقشورة الدهان من الداخل ، كان يسكن في باطنها زوج من الحمام البري يبني عشّاً آمناً ،يهدلُ عند خلو الجامع من المصلين وينصت عند كلمة “آمين”.. أذكر نحنحات خطيب الجمعة أثناء صعوده على المنبر ، ونوم الختيارية على الأعمدة المستديرة والتفاتات الأولاد إلى الشابيك الملوّنة، أذكر وقوف كبار الحي حول المحراب حتى يدعون “الخطيب” على “الغداء” فور انتهاء الصلاة، فمن يظفر بالشيخ ضيفاً عزيزاً في بيته يظفر بالدنيا كلها..
أذكر صوت صوفيا صادق الذي ينبعث من تلفزيوننا القديم بعيد النقل المباشر وهي تنشد ” أجرني اله العرش أنت مجيري”..وأشتاق إلى شدو الشيخ النقشبندي في ابتهاله المشهور “الله يا الله”..وصور الغيم الذي يمر سريعا على صوت المنشد وتفتح الأزهار وفرخ العصافير التي يفتح فاه لرزقه وصور الأمطار في الغابات ، كل ذلك كان يرافقنا في ظهيرة الجمعة..
أذكر حديث الشعرواي الديني ، وفقرة الأطفال، ونومة العصر التي لا تهنأ الا على صوت معلق أجنبي وهو يعلق على مباراة مسجلة من الدوري الانجليزي قبل موسمين…
كانت أيامنا ممتلئة بالتفاصيل، ومفردات الحياة لم تسلّم بنادق العيش بعد ، لذا ما زلنا نحن إليها ونحبّها…
في طقوس الجمعة كان كلّ من حولنا ما زالوا حولنا…هم التفاصيل وهم الطقوس.

احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫11 تعليقات

  1. للطقوس كان هناك شخوص … يشعلون فتيلها من أرواحهم … من تمتمات شفاههم .. من همساتهم … نحن الآن نحاول ان نبحث عن صدى كل ذلك في الزوايا وفي رجع الجدران الصامتة ، نحاول ان نسترجع بعضا مما كان حتى لو كان بالمتخيّل فلا نستطيع … غابت الأرواح .. غابت الشخوص .. فغابت الطقوس
    رحم الله أرواحا تركت في البيوت وحشة لا تموت

  2. كم أدهشني دقة التفاصيل التي شكلّت صوره جميله لطفولتنا البريئة في القرى .. ما أجمل ما كنا فيه .. كنا كالعصافير في سماء الوطن .. بلا هموم و بلا عقد . حياة صافيه كالماء الزلال .. مليئه بالحنان و العفويه و تملأها الشخوص الحقيقيه بالروح الدافئه .. كم كنا سعداء .. كم زرت من مناطق جميله في ترحالي في الشرق و الغرب .. و الله كل مشاهد العالم لا تعوضني عن يوم ربيعي غائم في قريتي الصغيره … ياااااه كم اشتاق لبيتي القديم .. لخبز أمي .. لسنابل القمح .. لصوت الاذان .. لصوت اجراس الكنائس .. لصوت الريح بين اشجار السرو .. لقد قتلتني الغربه و لم يبقى من روحي الا أجزاء متناثره بين بقايا الصور الملقاه على رصيف النسيان .. كم أحن اليك يا وطني
    سلمة يمناك يا احمد

  3. ليش هيك دايما بتبكينا الله يسامحك..
    اقول دورنا الان نعيش اولادنا وصغارنا ذكريات حلوة ضل معهم طول العمر زي ما عملو اهالينا ولا نستسلم للعيش في الماضي.. لا تنسى هنالك ايضا حاضر ومستقبل 🙂

  4. وكذلك لمة العائلة ، والاجتماع على الغداء ، الجمعة يعني منسف ولا شئ غيره ، و خطبة الجمعة على الهواء مباشرة من المسجد الحسيني ….كانت تبهرني أنشودة إلاهي وفي كل شئ أراك …تتكرر..لكن تبقى جديدة …وللأن تبقى جديدة … ليست المسألة فقط أنها ذكرياتنا …فالعادات تبقى بأصالتها ، ما زالت مغروسة في أنفسنا ، فقد كانت بيضاء بلا مشوشات …لم تلوثها العولمة ،ولا كثرة المواقع التواصلية ، ولا العادات المستوردة ..كان جيلا طيبا يطرب ويتذوق ويسعده..اي شئ
    أشعلت فينا الحنين أستاذنا…وأبهرتنا بفكرتك …وقلمك السيال الذي ينطق باﻻصالة …جمعتكم مباركة ..

  5. الله يسامحك جرحت قلبي من شوقي لهذيك الايام

    تسلم يا استاذ احمد على اعادتنا لتلك اللحظات رائحتها مازلت اشتمها

  6. اخي احمد تناسيت ان تذكر ان لباسنا كان يوم الجمعه موحدا بالدشداشه البيضاء والسروال تحته وطاقية الحج البيضاء على الراس وتناسيت ان تذكر ان كل سكان الحاره كانو يعرفون بعضهم بعضا والكل يعرف ماذا سيتغا جاره لان الصحون كانت مثل التكاسي تتنقل من منزل لمنزل
    الله اسامحك يارجل قلبت علي المواجع والله يرحمك يا امي كم مشتاق لاقبل قدميك وارتمي بحضنك وابكي

  7. تصوير دقيق عشنا به لا نقدر ان نعبر عنه سلمت العنقاء تضيف شي جديدابتعليقاتها شكرا

  8. مقال اكثر من رائع. الله يرحم هديك الايام. كل اشي كان اله قيمة واله ذاكرة وكان في حياه. بهالوقت لا حياة ولا لمة ولا عيلة. يا ريت نرجع بدون انترنت والكترونيات حتى اطفالنا يعشوا حياتنا ويعرفوا معنى الطفولة والحياةويضل معهم ذكريات.

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى