
حجية السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي(4)
تدوين السنة النبوية( في عهد النبي صلى الله عليه وسلم)
لقد مر تدوين السنة النبوية بعدة مراحل اولاها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وليس كما يروج منكروا السنة ان السنة لم تدون إلا في القرن الثاني الهجري. فلقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث الشريف خوف الإشتباه او الإلتباس في القرآن الكريم ففي الحديث الذي يرويه مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار” وسمح تارة اخرى لبعض الصحابة بالكتابة, ويمكن الجمع بين احاديث النهي عن الكتابة واحاديث السماح بالكتابة بما ذكره الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم تعليقا على الحديث السابق عن طريق عدة أمور: أولاها أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة ; لئلا يختلط ، فيشتبه القرآن والسنة على القارئ.وثانيها أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سمح بالكتابة لمن يجيدون الكتابة وليست لهم ذاكرة قوية لحفظ نصوص الوحي أما من كانت لديه حافظة جيدة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بحفظ الحديث مع عدم الكتابة.فمن وثق في حفظه لم يسعه الكتابة. ونحن نعلم ان العرب كانوا قوما أميين بالغالب كما جاء هذا الوصف في الحديث الشريف على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا». أخرجه البخاري ومسلم. فكانوا يعتمدون على قوة حفظهم وهذا الأمر جلي في نقلهم للنثر والشعر وكما قيل ان الشعر هو ديوان العرب فقد نقلوه كما هو فحفظوا المعلقات وحفظوا هذا الكم الهائل من الشعر الذي بين يدينا الآن دون زيادة ولا نقصان وهذا دليل قوي على قوة ذاكرتهم وصفاء ذهنهم وثبت حفظهم. وثالثها بان الأحاديث التي تنهى عن الكتابة منسوخة بالأحاديث التي تسمح بالكتابة وخاصة ان معظم كتابات الصحابة كانت في أواخر العهد المدني.
وسنورد هنا من الأدلة والأمثلة مايؤكد على تدوين السنة المشرفة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. فعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، يتكلم في الغضب والرضا؛ فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال صلى الله عليه وسلم:” اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق”وقد كان يسمي الوثيقة بالصادقة. فقد ثبت عنه أنه قال : ” مَا يُرَغِّبُنِي فِي الْحَيَاةِ إِلَّا الصَّادِقَةُ وَالْوَهْطُ ، فَأَمَّا الصَّادِقَةُ ، فَصَحِيفَةٌ كَتَبْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمَّا الْوَهْطُ ، فَأَرْضٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَقُومُ عَلَيْهَا ” .ويؤكد ذلك ما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: “ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مني حديثا، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب”.
وبعد فتح مكة عندما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبته الجامعةالتي ذكرها البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ ـ رضى الله عنه ـ قَالَ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ ” إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ ” . فَقَالَ الْعَبَّاسُ إِلاَّ الإِذْخِرَ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ” إِلاَّ الإِذْخِرَ ” . فَقَامَ أَبُو شَاهٍ ـ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ـ فَقَالَ اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ” اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ ” .
وما رواه البخاري ومسلم أن عليا رضي الله عنه لما سأله أبو جحيفة: هل عندكم شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى القرآن؟ قَالَ لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ).وكان علي رضي الله عنه يحتفظ بها لنفسه وكان يحتفظ بها في غمد سيفه.
ومنها الوثيقة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة ونظم بها علاقات المسلمين من المهاجرين والأنصار من جهة ومن جهة اخرى علاقة المسلمين مع سكان المدينة من اليهود. وهي تعد من أقدم المواثيق الدستورية التي تنظم الشؤون المدنية والدينية للدولة الإسلامية. وتقع في ثلاث ورقات كما ذكر ابو عبيد القاسم بن سلام, في كتابه ” الأموال”.
والوثيقة التي عاهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم نصارى نجران,وفصل فيها الحقوق والواجبات كما ذكر ابو يوسف في كتابه ” الخراج” وغيره. وكتاب الصدقات الذي فصل الرسول صلى الله عليه وسلم مقادير الزكاة الواجبة في الأموال وكيفية أخذها وجباتها من أصحابها. وهو كتاب طويل كتبه النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته وعليه ختمه. وكان عند أبي بكر الصديق , ونسخ منه نسخا بعد توليه الخلافة ووزعه على ولاته على الأمصار ليعملوا به.وانتقل بعد ذلك إلى عمر بن الخطاب, وقد احتفظ به أهل بيته حتى نسخه الإمام ابن شهاب الزهري, بعد ان أطلعه عليه سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب,وبعدها اخذه عمر بن عبدالعزيز عندما كان أميرا على المدينة من خاله سالم ابن عبدالله ونسخه , ثم أمر هشام بن عبدالملك بنسخ هذا الكتاب وأرسله إلى جميع أمراء الأقاليم للإلتزام به. كا جاء في كتاب”تاريخ تدوين السنة وشبهات المستشرقين” للدكتور حاكم المطيري بتصرف.
وصحيفة عمرو بن حزم عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فكتب له كتابا فيه كثير من التشريعات والسنن كما جاء في صحيح ابن حبان فقد أوردها كامله في صحيحه والحاكم في المستدرك. وقد بقي هذا الكتاب موجودا عند آل عمرو بن حزم حتى صار عند حفيده أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم والي المدينة وقاضيها في خلافة عمر بن عبد العزيز , وهو الذي طلب منه عمر أن يجمع السنة,وقد إطلع على هذا الكتاب الإمام ابن شهاب الزهري ورآه عند أبي بكر بن حزم مكتوبا في رقعة من الجلد.
وما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين المشركين في الحديبية، والكتب التي كتبها إلى الأمراء والملوك، فقد كتب للمقوقس حاكم مصر, ولهرقل عظيم الروم, ولكسرى ملك فارس, وللمنذر بن ساوى أمير البحرين , و لهوذة الحنفي أمير اليمامة, ولملكا عمان, وللحارث الحميري حاكم اليمن, والحارث الغساني امير الغساسنة, وللنجاشي ملك الحبشة. ومعظم هذه الكتب لا زالت محفوظة إلى يومنا هذا.


