#جلجامش و #سر #الخلود
يوسف غيشان
تقول الملحمة المكتوبة على الألواح الطينيّة، التي اكتشفت في منتصف القرن الثامن عشر، بأنّ الملك السومري جلجامش كان مستبدّاً وظالماً، وقد بنى حول (أوروك) عاصمة بلاده سوراً هائلاً عن طريق إجبار الناس على العمل بالسخرة، وفي ظروف بالغة الصعوبة، ولم يكتف بذلك، بل كان يجبر كلّ رجل ينوي الزواج على أن يرسل زوجته في ليلتها الأولى إلى الفحل جلجامش ليقوم بـــ ِ (الواجب).
كان الناس آنذاك يؤمنون بالآلهة المتعدّدة، وقد اشتكوا إلى إحداها -أعتقد أنّها أورورا -فاستجابت لنواح أهل أوروك، وخلقت (أنكيدو) كائناً وحشيّاً وقويّاً يعيش في البريّة، وقد اشتكى إليه الأهالي ظلم جلجامش، فطلب مبارزته حتى يردعه عن معاشرة نساء البلد، رغماً عنهنّ.
اشتبك البطلان في #معركة طاحنة ارتجت لها أرجاء الأرض، لكن جلجامش ينتصر في النهاية، وبعدها يصبح أنكيدو وجلجامش أصدقاء، وينطلقان في مغامرة ويقتلان حارس غابة الآلهة، فتغضب منهم إحدى الآلهات، وتعرض الأمر على الكبار، ويقرّر مجمع الآلهة معاقبة جلجامش، وبما أنّ (أبو الجلاجل) تسري في عروقه دماء الآلهة من والدته، فقد قرّروا قتل صديقه أنكيدو عقاباً له .. وهكذا، بكلّ بساطة مرض أنكيدو ومات.
كانت وفاة أنكيدو أوّل مواجهة لجلجامش مع الموت، فقرر أن يبحث عن الخلود لروحه الفانية. وقد علم أنّ هنالك رجلاً وزوجته نجيا من الموت في الطوفان العظيم وصارا مخلّدين. فاتجه إليهما في رحلة شاقة، ليبحث عندهما عن سرّ الخلود.
المهمّ، تقابله إحدى الآلهات -ربّما تكون سيدوري – وتنصحه بالعودة والاستمتاع بما تبقى له من الحياة بالأكل والشرب وما إلى ذلك من لذائذ الحياة، لكن أخونا جلجامش العنيد يرفض ذلك ويستمرّ في رحلته.
يقابل جلجامش الرجل الخالد وزوجته -نسيت اسمه -، فيطلب منه الأخير ألا ينام لمدّة ستّة أيّام وسبع ليالٍ ليحصل على الخلود، لكن جلجامش يغلبه النعاس ويفشل في إكمال المدّة، فتحنو عليه زوجة الرجل الخالد وتخبره أنّ هناك عشبة في قاع بحر (دلمون) سوف تمنحه الخلود إن حصل عليها وأكلها.
ينزِل جلجامش إلى أعماق البحر ويحضر العشبة، ويحملها معه في طريق العودة إلى أوروك، وكان ينوي أن يجربها على آخرين قبل تناولها (على طريقة مصانع الأدوية حالياً) في الطريق يتوقف للشرب ولقضاء حاجاته، فتأتي الأفعى وتسرقها وتأكلها.
وهكذا يعود أخونا جلجامش إلى بلاده خالي الوفاض، لكنّه عندما ينظر من بعيد إلى السور المحيط بمدينته أوروك، يدرك أن هذا السور هو الذي سيخلده لدى الأجيال القادمة. طبعاً، اثبتت الأيام أنّ جلجامش كان مخطئاً واندثر السور منذ قرون ولم يخلد حتى نفسه.
لكن ما خلد جلجامش هو الكلمة. ما خلد جلجامش كانت هذه الملحمة الرائعة التي عبرت القرون والسنوات وانتصرت على صروف الدهر لتصل إلينا، ولولاها لكان جلجامش مجرّد اسم ملك عاديّ جدّاً مذكور في الألواح الطينيّة بكلّ حياد .